علوان أمين الدين *
مع التأكيد والحرص على ضرورة كشف مرتكبي جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ومحاكمتهم بصورة عادلة تعيد الى العدالة وجهها المشرق، وتنقذ لبنان من براثن الفتنة التي جرّته إليها مفاعيل الاغتيال السياسي الكبير وتبعاته، بما كان يمثله الرئيس الشهيد، وما أثير حول الجريمة يحتاج الى هدوء العقل وحكمة المنطق بعيداً من تسييس القضايا، وهي لا تحتمل أصلاً، لذلك يجب وضع نظام للمحكمة تراعى فيه العدالة والموضوعية والدقة، ولا ضير من تقديم بعض الملاحظات النقدية بعد قراءة نظامها الذي نشر في الجريدة الرسمية ملحقاً للعدد 59 (لسنة 146) يوم الخميس الواقع فيه 14/12/2006. وتكمن أهم الملاحظات في:
1 ــ التعاون مـع المحكمة:
نصت المادة 15/2 من الاتفاق على أن:
«تستجيب الحكومة، من دون تأخير لا مبرر له، لأي طلب للمساعدة تقدمه المحكمة الخاصة أو أمر تصدره الدوائر، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر:
(أ‌) تحديد هوية الأشخاص وأماكن وجودهم،
(ب) تقديم المستندات،
(ج) القبض على الأشخاص واحتجازهم،
(د) إحالة المتهم على المحكمة».
إن هذا النص يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات، إذ إن تحديد هوية الأشخاص وأماكنهم يكون من جانب الضابطة العدلية التي تعمل تحت إمرة السلطة القضائية لا الحكومة، أما تقديم المستندات فهي أيضاً من مسؤولية السلطة القضائية ــ عبر وزارة العدل ــ لكونها هي السلطة المخوّلة التحقيق والتي تملك الوقائع. والحال نفسها بالنسبة إلى أوامر الاعتقال أو مذكرات التوقيف وإحالة المتهمين على المحاكمة إذ إن هذه الأعمال هي من اختصاص السلطة القضائية (وتحديداً المدّعي العام أو قاضي التحقيق) لا من سلطة الحكومة. وهذا يعتبر خرقاً واضحاً لمبدأ فصل السلطات المعتمد في لبنان.
لقد كان من الأجدى أن يكون النص على الشكل التالي: «تستجيب السلطات القضائية، بالتعاون والتنسيق مع الحكومة، من دون تأخير...»
2 ــ تعيين القضاة وردهم وتأديبهم:
أ ــ تعيين القضاة:
تنص المادة 9/3 من نظام المحكمة على ما يلي:
«يعيّن القضاة من قِبل الأمين العام (للأمم المتحدة)، على نحو ما تنص عليه المادة 2 من الاتفاق (وأهم بنودها أن القضاة يعيّنون من قبل الأمين العام بالتشاور مع الحكومة اللبنانية)، لمدة ثلاث سنوات. ويجوز إعادة تعيينهم لمدة إضافية يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة اللبنانية».
وتنص المادة 2/5/ب من الاتفاق على أن:
«يعيّن الأمين العام القضاة الدوليين للعمل في مناصب قاضي تحقيق، أو قاضي دائرة ابتدائية، أو قاضي دائرة استئناف، أو قاضٍ مناوب، بناء على ترشيحات تقدمها الدول الأعضاء بدعوة من الأمين العام، وكذلك من أشخاص مختصين».
إن أولى الملاحظات على هذا النص هي كلمة «التشاور»، فهذه الكلمة لا تحمل في مضمونها صفة الإلزام، وبذلك يستطيع الأمين العام أن يقوم بتعيين القضاة من دون الأخذ بملاحظات أو توجّهات الحكومة اللبنانية، ويجب أن تستبدل بعبارة «بالاتفاق مع الحكومة اللبنانية» على اعتبار أن حرية الاختيار المعطاة للأمين العام فضفاضة وهو أمر مستغرب، فكيف الحال إذا ما عيّن قاضٍ من جنسية «إسرائيلية» مثلاً؟ لذلك يجب إعطاء الحق في الخيار لهيئة لا لشخص.
من المهم هنا المقارنة بين نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والمحاكم الدولية الأخرى كالمحكمة الجنائية الدولية التي أنشأتها بعض الدول في روما عام 1998 أو محكمة العدل الدولية أو المحاكم التي أنشأها مجلس الأمن عبر قرارات منه.
تنص المادة 36/6/أ من نظام روما الأساسي على أن:
«يُنتخب القضاة بالاقتراع السري في اجتماع لجمعية الدول الأطراف... يكون الأشخاص المنتخبون للمحكمة هم المرشحين الـ18 الحاصلين على أكبر عدد من الأصوات وعلى أغلبية ثلثي الدول الأطراف الحاضرة المصوتة».
وتنص المادة 4/1 من نظام محكمة العدل الدولية على أن:
«أعضاء المحكمة تنتخبهم الجمعية العامة ومجلس الأمن من قائمة حاوية أسماء الأشخاص الذين رشّحتهم الشُعب الأهلية في محكمة التحكيم الدائمة...».
ولقد نصت المادة 13 من نظام المحكمة الجنائية الخاصة بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية في يوغسلافيا السابقة (التي أُنشئت بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 808 تاريخ 22/2/1993) على أن تعيين القضاة يكون بالانتخاب من جانب الجمعية العامة بعد تقديم لائحة من مجلس الأمن بناء على ترشيحات الأمين العام. والأمر نفسه بالنسبة إلى المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا التي أُنشئت بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 955 تاريخ 8/11/1994.
لماذا لا يتبع الأمر نفسه في المحكمة الخاصة بمحاكمة مرتكبي الجرائم في لبنان؟ إن اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة هو أكثر الأعمال ديموقراطية في هذه المواضيع لكونها تُبعدُ الضغوط التي قد تمارسها بعض الدول من أجل تسييس المحكمة أو تحقيق مصالح خاصة والابتعاد عن مبدأ العدالة.
وما يلفت النظر أيضاً هو المادة 2/5/أ من الاتفاق الخاص بالقضاة اللبنانيين المشاركين في المحكمة، التي تنص على أن:
«يعين الأمين العام القضاة اللبنانيين للعمل في الدوائر الابتدائية أو دوائر الاستئناف أو ليعمل قاضياً مناوباً، وذلك من قائمة تتألف من اثني عشر شخصاً تقدمها الحكومة اللبنانية بناء على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى في السلطة القضائية اللبنانية».
فحتى القضاة اللبنانيون لا تقوم الدولة اللبنانية بتعيينهم بل تكتفي بترشيحهم، وهذا أمر غير مستحب ما دامت المحكمة ذات طابع دولي وهذا يعدّ انتهاكاً لحق السيادة. وما يجب أن يتبع هو أن يُرشح مجلس القضاء الأعلى بعض الأسماء على أن يُعيّنوا بمرسوم يتخذ من مجلس الوزراء.
ب ــ رد القضاة:
لا ينطوي النظام على هذا المبدأ ولكنه مقرر في أغلب القوانين الجنائية في العالم، ومردّه هو عدم الإخلال بالعدالة أو الجنوح والهوى، وخصوصاً إذا ما كانت هناك ملاحظات أو خلافات بين المتهم والقاضي. فلقد وُضع هذا المبدأ كحق للمدعى عليه في استبعاد القاضي الذي يرى أنه لن يقوم بواجباته الوظيفية بسبب وجود علاقة نفور بينهما، وكذلك أعطى الحق للمدعي في حال وجود قربة أو علاقة جيدة بين المتهم والقاضي، ما قد يؤثر سلباً في مجريات الدعوى أو الحكم الصادر. وفي كلتا الحالتين يجب تقديم الأسباب التي دفعت إلى طلب الرد.
ينص نظام روما في المادة 41 على أن:
«1 ــ لهيئة الرئاسة، بناء على طلب أي قاضٍ، أن تعفي ذلك القاضي من ممارسة أي من المهمات المقررة بموجب هذا النظام الأساسي...
2 ــ (أ) لا يشترك القاضي في أية قضية يمكن أن يكون حياده فيها موضع شك معقول لأي سبب كان. ويُنحّى القاضي عن أي قضية وفقاً لهذه الفقرة إذا كان قد سبق له، ضمن أمور أخرى، الاشتراك في أية صفة في تلك القضية أثناء عرضها على المحكمة أو في قضية جنائية متصلة بها على الصعيد الوطني تتعلق بالشخص محل التحقيق أو المقاضاة. ويُنحّى القاضي أيضاً للأسباب الأخرى التي قد يُنص عليها في القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات.
(ب) للمدعي العام أو الشخص محل التحقيق أو المقاضاة أن يطلب تنحية القاضي بموجب هذه الفقرة.
(ج) يُفصل في أي تساؤل يتعلق بتنحية القاضي بقرار من الأغلبية المطلقة للقضاة. ويكون من حق القاضي المُعترض عليه أن يقدم تعليقاته على الموضوع من دون أن يشارك في اتخاذ القرار».
جـ ــ تأديب القضاة:
لم ينص نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على هذا الموضوع مع أنه من المهم وجود مثل هذه المواد وذلك كي يعلم القاضي بأن هناك نصوصاً خاصة بالعقاب ويمكن أن يُلجأ إليها، ما يعزز صدقية عمله ويضع سيفاً قانونياً مسلطاً عليه وخصوصاً «أن المحكمة الخاصة التي يجري النظر في نظامها، هي خارج نطاق الجهاز القضائي للأمم المتحدة أو الجهاز القضائي للدولة اللبنانية، بما أنها ليست محكمة وطنية. فإذا اقترف أحد قضاة المحكمة خطأً جسيماً أو تقصيراً في العدالة أو الاحتيال، أو الفساد، يجد الأشخاص المحكومون أو الموقوفون أنفسهم محرومين من حقهم بطلب تصحيح الأضرار المعنوية الواقعة عليهم، لأن الأمم المتحدة والدولة اللبنانية لا تُعتبران مسؤولتين معنوياً عن تصرفات القضاة».
في المقابل نص نظام روما الأساسي في المادة 46 على ما يلي:
«1 ــ يُعزل القاضي أو المدّعي العام أو نائب المدعي العام... من منصبه إذا اتخذ قراراً بذلك وفقاً للفقرة 2، وذلك في الحالات التالية:
(أ) أن يثبت أن الشخص قد ارتكب سلوكاً سيئاً جسيماً أو أخلّ إخلالاً جسيماً بواجباته بمقتضى هذا النظام الأساسي...».
ولقد أعطت المادة 46/4 من النظام الحق للقضاة في الفرصة الكاملة «لعرض الأدلة وتقديم الدفوع... ولا يجوز في ما عدا ذلك للشخص المعني أن يشترك في النظر في المسألة».
ونصت المادة 47 على ما يلي:
«يخضع للتدابير التأديبية... كل قاض أو مدّعٍ عام أو نائب للمدعي العام... يرتكب سلوكاً سيئاً يكون أقل خطورة في طابعه مما هو مبيّن في الفقرة 1 من المادة 46».
3 ــ المدّعي العام:
ينص الاتفاق في المادة 3 على أن:
«1 ــ يعيّن الأمين العام، بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، مدّعياً عاماً لمدة ثلاث سنوات. ويجوز إعادة تعيين المدّعي العام لفترة أخرى يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة.
2 ــ يعين الأمين العام المدعي العام، بناء على توصية من فريق اختيار يكون قد أنشأه بعد إطلاع مجلس الأمن على نيّته القيام بذلك. ويتألف فريق الاختيار من قاضيين يعملان حالياً في محكمة دولية أو تقاعدا عن العمل، ومن ممثل الأمين العام».
بالنظر إلى كيفية تعيين المدعي العام في محكمة يوغسلافيا، نرى أن رئيس مجلس الأمن هو من يقوم بتعيين المدعي العام بناء على اقتراح الأمين العام للأمم المتحدة.
أما نظام روما الأساسي، فلقد نصت المادة 42/4 منه على أن:
«ينتخب المدعي العام بالاقتراع السري بالأغلبية المطلقة لأعضاء جمعية الدول الأطراف...».
من الممكن أن يُعيّن المدعي العام في المحكمة الخاصة بالجرائم التي وقعت في لبنان عبر قرار يتخذ من مجلس الأمن بناء على اقتراح يرفعه الأمين العام للأمم المتحدة بعد الاتفاق مع الحكومة اللبنانية، إذ يجب قدر المستطاع إبعاد الأشخاص عن القيام بالتعيين واللجوء إلى الهيئات أو المجالس الدولية تخفيفاً للضغوط.
4 ــ سلطة قاضي التحقيق:
إن الظاهر من نص المادة 18/1 أن سلطة قاضي التحقيق هي أعلى من سلطة المدعي العام، حيث تنص على أن:
«يتولى قاضي التحقيق استعراض لائحة الاتهام. فإذا ما اقتنع بأن المدعي العام أقام دعوى ظاهرة الوجاهة، فإنه يعمد إلى تثبيت الاتهام. أما إذا لم يقتنع، فترفض الدعوى».
وهذا الأمر يتفق مع ما يعرف في لبنان بقيام قاضي التحقيق بإصدار قرار قضائي بمنع المحاكمة بعد إجرائه التحقيق وتثبُّته من أن الدعوى غير قائمة على أُسس. ولكن في هذه الحالة، يحق للمدعي العام استئناف الحكم لدى الهيئة الاتهامية التي تفصل في الموضوع. لذلك يمكن أن تحدد هيئة ما للنظر في مدى صوابية هذا القرار وحل الخلاف بين الجهتين.
ومع العلم اليقيني بأن نظام هذه المحكمة قد أُنشئ بما يتوافق مع النظامين الفرنكوفوني والأنجلوسكسوني ولم يعتمد على النظام اللبناني في وضعه، إلا أن مقتضيات العدالة تقضي بذلك لكون دور قاضي التحقيق ينتهي بالموافقة على إقامة الدعوى بعد التثبت من أدلة المدعي العام على أن يدير هذا الأخير مجريات المحاكمة عند البدء بها، لذلك يجب أن تكون هناك هيئة لتحل أي تنازع بين هاتين الجهتين.
5 ــ عدم جواز المحاكمة على الجرم عينه مرتين:
إن هذا المبدأ مقرر لعدالته، إذ لا يجوز أن يحاكم الشخص على الفعل الجرمي نفسه الذي ارتكبه مرتين. ولقد نص نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على هذا المبدأ. ولكن من خلال النصوص نرى بعض التناقضات. إن المادة 5/2 من النظام تتناقض مع أساس النظام نفسه حيث إنه في المبدأ لا يجوز أن تقوم المحاكم الوطنية بإصدار الأحكام القضائية الخاصة بالمحاكمات نفسها لكون اختصاصها النوعي قد نزع منها بعد إنشاء المحكمة الدولية. وكل ما يمكن القضاء اللبناني أن يفعله هو مساعدة لجنة التحقيق والمحكمة الدولية بعد تكوينها عبر إصدار قرارات التوقيف أو مذكرات الجلب أو أوامر القبض أو أوامر التفتيش، وإلا كانت أحكامها تتناقض مع النظام الدولي الذي وضع لهذه الغاية.
فالمادة 5/2 من النظام تنص على أن:
«يجوز للمحكمة الخاصة أن تحاكم شخصاً سبقت محاكمته أمام محكمة وطنية كانت إجراءاتها تفتقر إلى الحياد أو الاستقلال، أو إذا كانت موجهة نحو حماية المتهم من المسؤولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة، أو لم يكن الادعاء قد أدى دوره في العناية الواجبة».
ومن هذا النص يفهم أنه يمكن المحاكم الوطنية أن تنظر في جرائم من اختصاص المحكمة الدولية الخاصة، وهو الأمر الذي يتناقض مع المادة 1 من النظام نفسه التي تنص على أن:
«يدخل ضمن الاختصاص القضائي للمحكمة الخاصة الأشخاص المسؤولون عن الهجوم الذي وقع في 14 شباط 2005 وأسفر عن مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وعن قتل أو جرح أشخاص آخرين (هذا بالإضافة إلى الجرائم التي وقعت بعد جريمة الرئيس الحريري)... فإن اختصاص المحكمة سيشمل الأشخاص المسؤولين عن هذه الهجمات ...».
إن المنطق القانوني يقضي بأن لا تقوم المحاكم الوطنية بمحاكمة أي شخص حتى لو ثبتت إدانته أو تورطه في الجريمة أو مشاركته أو تحريضه أو تدخّله لكون الاختصاص القضائي النوعي هو معقود لجهة أخرى، وإن نظام العقوبات الموضوع في المادة 24/1 من النظام هو مختلف عن الذي ستطبّقه المحكمة الوطنية من خلال قانون العقوبات إذا أُخذ كما هو. مثال ذلك عقوبة الإعدام التي حُذفت من عقوبات المحكمة الدولية الخاصة.
* باحث في العلاقات القانونية والدولية