حبيب فياض *
لا يقتصر التعقيد الذي تشهده الساحة اللبنانية، على الأزمة الحالية بعناوينها المختلفة وأسبابها المباشرة، بل يرتبط بسياق من الأزمات، متصل وممتد منذ تأسيس دولة لبنان الكبير وصولاً إلى الكيان اللبناني الراهن بنسخته الأخيرة.
والأمر لا يحتاج إلى اجتهاد وعناء في سبيل إحالة هذا السياق المأزوم على الظروف التي أدت الى تشكل لبنان الحديث، والتي يمكن تالياً إرجاعها الى ملابسات هوية لبنان وانتمائه. هذه الهوية التي كانت وما زالت مصدراً لإنتاج الأزمات لكونها عصيّة على التبلور والتعيّن نتيجة تدافع وتزاحم مكوّناتها ومفرداتها، رغم تغنّي البعض بنصاعة صورتها النهائية، ولكونها، في الوقت نفسه، ممنوعة من التجزئة والاضمحلال، باعتبار الترابط القدري الذي يجمع بين هذه المكوّنات، بنحو بات فيه لبنان محكوماً، في وجوده واستمراره، لمكونات متجاورة غير متوحّدة، ومتباعدة غير منفصلة. ليبقى الوطن، وفقاً لذلك، يتأرجح مأزوماً بين هويتين: الأولى مطلوبة لكنها تفتقر الى عناصر انوجادها وتجسّدها، والأخرى مرفوضة، غير أنها تعكس واقع الحال في الاجتماع اللبناني.
على هذا، تتبدّى، لبنانياً، مرحلية الانفراجات التي تطل برأسها بين حين وآخر، ذلك أن الاستقرار المنشود متعذر الحضور ما لم يكن مصحوباً بهوية يُصار الى التصالح عليها والتوحد حولها وتحويلها، من ثم، الى إطار معياري لبناء الوطن والتعايش فيه... هذا في حين أن ما يُتعامل معه، راهناً، على أنه هوية وطنية، يتنافر مع المعايير المألوفة للهويات التي تنبني أساساً على تقديس ما هو مشترك وتغليبه وجعله حاكماً وحكماً في موارد الاختلاف والانقسام.
ثمة في لبنان مكونات عديدة (الطائفة، المذهب، الحزب...) أنتجت الاجتماع اللبناني بصورته التعددية الراهنة، غير ان هذه المكونات، من جهة أخرى، تمسّكت بالوجه التعددي باعتباره مدخلاً للكسب والتفوق الفئوي من دون التعدي الى التوحد لكونه باعثاً على المساواة وحائلاً أمام التمايز والاستعلاء، ما أدى الى جعل الهوية إطاراً للتنازع والخصومة نتيجة تحوّل عناصر استقرارها المؤسِّسة لها الى أدوات اختلاف وتنازع.
والهوية، أية هوية، لا يمكن ضبط معالمها وبلورتها، إلا من طريق تحديد «الأنا» المتكوّنة والمتوخاة أولاً، وارتباطها بالآخر (القريب والبعيد) ثانياً... والعلاقة بين الأمرين تكاملية ولزومية، إذ يستحيل معرفة الذات من دون العلاقات المائزة التي تؤدي الى تحديد موقعها من الآخر وتصنيفه قياساً إليها. من هنا، تنبع أزمة الهوية في لبنان، بنيوياً، من الاضطراب والاختلاف في توصيف «الأنا» اللبنانية الجامعة وتعيينها. وعلائقياً، من الانقسام على تصنيف الآخر وطريقة التعامل معه.
من التداعيات الدائمة لما تقدم من مأزومية الهوية اللبنانية، ما نراه من عدم استقرار في كينونة الوطن لمصلحة كيانات مجتمعية متباينة على جغرافيات صغيرة متجاورة يحكمها التعايش الاضطراري الذي لا يرقى الى مستوى الانصهار الوطني، وأيضاً ما نلحظه من اضطراب في بنية الدولة باعتبارها انعكاساً لبنية الهوية المضطربة، فضلاً عن تمسّك اللبنانيين بانتماءات وهويات ضيقة (حزبية وطائفية) للتوفّر على الحصانة والأمان الاجتماعي بدلاً من الأمان المفترض أن يوفره الانتماء (المفقود) الى الهوية الوطنية الشاملة.
ومهما يكن من شأن الهوية، فهي، في كل الأحوال، سيرورة قدرية تتجاوز الحاضر وتخضع لمحددات الثقافة والتاريخ والدين والجغرافيا و... إذ هي ما هو كائن وليست ما يراد له أن يكون، ولسنا نحن من يختارها لأنها سابقة على وجودنا وعلة حضورنا، وبالتالي لا يمكن الانقلاب عليها والخلاص منها ما دامت «الأنا» مُحال تحوّلُها إلى «الغير» وتخلّيها عن الذات.
انطلاقاً من ذلك، لا بد من الاعتراف بعبثية المشاريع التي تحاول أن تحرف لبنان عن هويته الكامنة فيه، وإن أية محاولة من جانب اللبنانيين لتجاوز أزمة الهوية يجب أن تنطلق من توصيف المنجز الحضاري والتاريخي والجغرافي للبنان بعيداً من محاولات استيراد مكوّنات خارجية لهوية مختلفة، لأن الهوية اللبنانية منجزة وكائنة، من جهة «الأنا»، على الانتماء العربي رغم خصوصية لبنان، ومن جهة العلاقة مع الآخر، على العداء لإسرائيل، وكل ما دون ذلك سيكون من قبيل خروج الشيء من ذاته أو عليها.
لا بد من حسم إشكالية هوية لبنان، وإلا سيعود اللبنانيون، مهما تفاهموا، إلى الانقسام مجدداً عند كل عدوان تموزي محتمل، ومؤتمر باريسي جديد لدعم لبنان، ومحكمة أخرى ذات طابع دولي.
* كاتب لبناني