ماجد عزام*
حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أُعلن تأليفها الأسبوع الماضي لا تكرّس أو تترجم مبدأ الشراكة السياسية الجدية والفعالة أو مفهومها، وللمرة الأولى منذ فترة طويلة على الساحة الفلسطينية، بل إنها في سياق أشمل وأعمّ تعني الشروع في العمل على تأسيس السلطة الفلسطينية الثانية التي ستمثل نقطة فارقة ومفصلية في التاريخ الفلسطيني لكونها ستحدد وجهة سير المقاومة، فإما تحقق الأهداف الوطنية في إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة عاصمتها القدس ضمن حدود 5 حزيران 1967 مع حل عادل لقضية اللاجئين على أساس القرار 194، وإما تنهار السلطة الفلسطينية بالكامل وتعود الأمور إلى نقطة الصفر لا في فلسطين فقط بل في عموم المنطقة أيضاً.
صباح السادس والعشرين من كانون الثاني 2006 أي صباح اليوم التالي للانتخابات التشريعية الفلسطينية، أعلن الشعب الفلسطيني صراحة إنهاء وطي صفحة السلطة الفلسطينية الأولى، والرغبة في الانتقال وبشكل شفاف وديموقراطي إلى السلطة الثانية، ومن نافل القول أن ثمة جهات عديدة على الساحة الفلسطينية لم تفهم المغزى الاستراتيجي لنتائج الانتخابات، والأخطر من ذلك أن ثمة جهات فاعلة ومؤثرة على الساحة الفلسطينية فهمت ذلك المغزى ولكنها عملت بقوة لمنع تكريسه بشكل ملموس على أرض الواقع ولو بثمن الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية، ولكن بغض النظر عن التفاصيل فقد انتصرت في النهاية إرادة الشعب الفلسطيني كما عبّر عنها في انتخابات كانون الثاني الماضي. وللتذكير، فإن السلطة الأولى التي امتدت من بداية التسعينيات إلى منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أي لمدة خمس عشرة سنة تقريباً حملت وتضمنت كل الأمور السيئة والكارثية التي يمكن أن تحدث لأي مجتمع في العالم، مزيج من الفساد والتسلّط والديكتاتورية وهدر المال العام، وأسوأ من ذلك الاستقواء بالعدو والخارج على الداخل وإدارة مفاوضات أو اتصالات سياسية معه كانت أقرب إلى الاستسلام والتنازل أو حتى السمسرة أحياناً لتحقيق بعض الأهداف الشخصية والفئوية.
للأمانة يجب التنويه بما قام به الرئيس ياسر عرفات في أواخر عهده من خطوات في المجال السياسي لوقف مهزلة مسلسل التنازلات، وهذا الأمر أدى في الحقيقة إلى القرار الاسرائيلي الواضح المعالم باغتياله، ولكنه أدى أيضاً إلى تهيئة الظروف والبيئة الفلسطينية للانتقال نحو مرحلة مغايرة تماماً، أي إلى السلطة الفلسطينية الثانية.
السلطة الثانية أرادها الشعب الفلسطيني مغايرة ومناقضة للسلطة الأولى في كل شيء، خالية من الفوضى والفساد والمحسوبية وهدر المال العام، وخالية من التفاوض المخجل والمذل مع اسرائيل والانحدار من تنازل إلى آخر، والأهم أنها خالية من الاستئثار والتفرّد بالمسؤولية والقرار لمصلحة الشراكة الجدية والفعالة في إدارة الشأن العام سواء في بعده الداخلي أو الخارجي.
المخاض كان مؤلماً وطوال سنة حاول فلسطينيون وعرب وأجانب الوقوف في وجه مدّ التاريخ التغييري، وتعرّض الشعب الفلسطيني لأقسى أشكال الحصار والضغط والابتزاز وأبشعها للخضوع والتنازل، وعندما تبين أن الوضع قد ينزلق نحو حرب أهلية لا تبقى ولا تذر من المشروع الوطني وترتد سلباً على المحيط الجيوبولوتيكي العربي والاسلامي، راجع كثيرون، فلسطينيين وعرباً، أنفسهم، وهذه المراجعة عبّرت عن نفسها في اتفاق مكة ثم حكومة الوحدة الوطنية الأولى التي تدشن وتكرس عهد السلطة الفلسطينية الثانية.
في ما يتعلق بحكومة الوحدة يمكن الإشارة باختصار ولكن بتركيز إلى أن البرنامج السياسي جاء ــ كما أشارت دائرة الأبحاث في وزارة الخارجية الاسرائيلية ــ أكثر تصلّباً وجذرية ووضوحاً من اتفاق مكة، فالمقاومة حق مشروع للشعب الفلسطيني كفلته الأعراف والمواثيق الدولية، ومن حق الشعب حتماً وقطعاً الدفاع عن نفسه في وجه الاحتلال البشع والبغيض، ووقف المقاومة لن يتم إلا بزوال الاحتلال نهائياً بكل مظاهره وتجلّياته.
أما التهدئة فهي شيء آخر، إذ الوصول إليها مرتبط بالتوافق الفلسطيني لا بالإكراه، على أن تكون شاملة متبادلة متزامنة ومرتبطة بوقف كل الإجراءات الاحتلالية القمعية والتوسعية.
من جهة أخرى، فإن حق التفاوض والاتصالات السياسية مكفول ومحفوظ ــ كما أشارت وثيقة الوفاق الوطني ــ لمنظمة التحرير ورئيسها ورئاسة السلطة، غير أن هذا الحق يجب أن يؤخذ على قاعدة التمسك بالأهداف الوطنية وتحقيقها، وهو ليس حقاً مطلقاً، إذ ينبغي الرجوع للمؤسسات الشرعية والدستورية، أو حتى للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، لإبداء رأيه والحسم في أي اتفاق نهائي ومصيري قد يتم التوصل إليه عبر التفاوض.
طبعاً يجب التنويه والإشارة كذلك إلى البنود الداخلية سواء في الشق الأمني أو الاقتصادي الاجتماعي، حيث يقتضي تأكيد محاربة الفوضى الأمنية وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية وفق أسس وطنية ومهنية ووقف كل أشكال المحسوبية والفساد وهدر المال العام وإعادة الاعتبار للمساواة وتكافؤ الفرص وترسيخ العدالة الاجتماعية.
المعطيات السابقة الإيجابية وذات المغزى المرحلي والاستراتيجي لا تعفي من الإشارة إلى أن حكومة الوحدة الوطنية تمثّل خطوة مهمة وجوهرية نحو الشراكة السياسية الجدية والفعالة، إلا أن ثمة فصائل وقوى مهمة ومؤثرة غير ممثلة في الحكومة مثل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، فالشراكة لا تكتمل إلا بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية وشفافة ونزيهة، ويفترض بالسلطة الفلسطينية الثانية أن تكون مدخلاً مفصلياً مهماً لتحقيق الأهداف الوطنية في السيادة والحرية والاستقلال، ومنظمة التحرير هي مرحلة وسيطة ومركزية في هذا السيناريو والقفز عنها سيكون غير صائب وسيترك حتماً آثاراً ضارة على الآمال والطموحات الوطنية الفلسطينية.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام