عزمي بشارة
عندما شنّت إسرائيل عدوانها على لبنان كان من الواضح أنها تحظى بتشجيع أميركي يتجاوز الدعم بفتاوى أو براءات أو صكوك غفران (مترادفات لكي لا يزعل أحد) جورج بوش: «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ضد الإرهاب»، إلى الرهان على العدوان ووضع أهداف له ترتبط أيضاً بالأهداف والمحاور الإقليمية. وقد اعتبرنا هذا التشجيع الأميركي و«العربي الاعتدالي» لهذا العدوان المتطرف أحد أسباب توسيع نطاق «العملية» التي لم تعلن كحرب إطلاقاً لتستلّ من الأدراج الخطط المعدة للقضاء على المقاومة اللبنانية. وقد حظيت إسرائيل بدعم علني من دول غربية أخرى منها بريطانيا. أما فرنسا فقد اتخذت موقفاً نقدياً من الحرب كرّره شيراك عدة مرات مستمداً منطقه من عدم تلاؤم رد الفعل الإسرائيلي مع فعل خطف جنديين، وبما معناه باللبناني «ما في نسبة وتناسب». واستعار شيراك عبارة من قوى لبنانية: «ينشأ أحياناً الانطباع أن إسرائيل تريد تدمير لبنان». لم يكن رد الفعل الفرنسي معارضاً للحرب بقدر ما جاء دليلاً على أن فرنسا متورطة في لبنان إلى درجة التماهي مع صيغ ردود فعل بعض القوى اللبنانية، ونقصد تلك التي أشعرها موقفها غير المعارض، أو المتفهّم للحرب، أو غير الآسف على الطرف المعرض للعدوان والذي تهدف الحرب إلى اجتثاثه، بالحرج. وهي بالتالي تصيغ موقفها كما يفترض بقوى لبنانية أن تصيغه. وهذا يضع فرنسا في موضع الشـــــــبهة أكثر مما يبرؤها، ويفسر أيضاً موقفها الأكثر تطرّفاً ضد إمكانية التوصل إلى وفاق داخلي في لبنان.
في 18 آذار جاء من الدولة التي شنّت العدوان، والتي لا تحفظ سراً ما هو أوثق قليلاً من التحليل أعلاه. جاء خبر نصّه أنحف من عنوانه، ومضمونه أكثر ضموراً من شكله، أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك اقترح على إسرائيل في الأيام الأولى للعدوان على لبنان «مهاجمة سوريا وإسقاط نظام الحكم فيها مقابل تأييد فرنسي غير محدود في الحرب». تقول «معاريف» أنها كانت «رسائل» من الرئيس الفرنسي جاك شيراك شخصياً، بينما تشير الصحيفة في آخر التقرير إلى أن المقترح الفرنسي بُحث فقط في طواقم مهنية تابعة لوزارة الخارجية، ولم يطرح أمام المستوى السياسي لبتّه... بالعبرية كما في العربية تحتمل كلمة رسائل تأويلات من الدلالة على تلميحات وحتى الرسائل الرسمية المكتوبة. ونحن نرجّح في النهاية أن فرنسا جعلت إسرائيل تفهم من دون رسائل واضحة أنها لا تمانع بل تشجع أن يكون الرد الإسرائيلي على عملية خطف الجنديين موجّهاً ضد «مواقع» حزب الله (فسّر كلمة مواقع بالإسرائيلي!!) وضد سوريا مباشرة بحجة دعمها غير المشروط للإرهاب في لبنان.
كان هذا هو الرأي المعلن لبعض قوى اليسار الصهيوني التي تبدي عادة تفهّماً أكبر للقوى المعتدلة العربية ولضرورة عدم تنغيص التحوّل الجاري في لبنان بسوء الحسابات. ولذلك سمعت مع بداية قرع طبول الحرب تصريحات من أمثال النائب يوسي بيلين بتوجيه الضربة إلى سوريا. ندم بيلين على كلامه هذا، وهو يطالب حالياً بالتفاوض مع سوريا. لم يندم أخلاقياً بالطبع، أي لم يؤنّبه ضميره، بل تغيّرت الحسابات بعد فشل إسرائيل المدوّي في الحرب.
وجاء في هذه المراودة الفرنسية حسب «معاريف»، أن إسرائيل ستحظى بدعم فرنسي غير محدود في مجلس الأمن ومن خلال تأثيرها في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إذا قررت اجتياح سوريا وإسقاط نظام الحكم الحالي(!!)، موضحةً أنها ستعبّر عن دعمها بتأييد قرارات وتصريحات دولية تمنح إسرائيل مساحة واسعة من المرونة في حربها على سوريا. وستمنع فرنسا في الوقت نفسه أي تدخّل من شأنه أن يؤثر في عمل الجيش الإسرائيلي ضد سوريا. هذا ما قامت به أميركا في مجلس الأمن طوال الحرب الوحشية على لبنان وحده.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي قوله: «إن الفرنسيين قالوا لنا عملياً ماذا تريدون من لبنان؟ توجّهوا إلى سوريا، فهي مصدر كل المصائب»، مضيفاً: أراد الفرنسيون أن ينفّذ الجيش الإسرائيلي المهمة في سوريا بالنيابة عنهم. وحسب مسؤول إسرائيلي آخر: «لم يفهم شيراك المصلحة الإسرائيلية على أنها لم تبحث آنذاك عن سبل لمهاجمة سوريا». ويضيف «وحين أدرك شيراك أننا نبحث عن سبل لإنهاء الحرب لا توسيعها، توقفت الرسائل». وبرأيه «لم تكن الولايات المتحدة لتعترض لو قررنا اجتياح سوريا في الأيام الأولى للحرب».
هذه بالطبع كلها تحليلات وآراء محدودة الضمان، وليست حقائق، ولا حتى حقائق بمنزلة أخبار. وكان لدينا رأي منشور في بداية الحرب أن عدم رغبة إسرائيل في توسيع نطاقها لتشمل سوريا، لم يأت بضغط أميركي، بل كان من منطلق ميداني عسكري وسياسي إسرائيلي محض ملخّصه التركيز على المهمة وإنجاحها، وعدم ولوج حرب محسوبة الأهداف نظرياًَ، ولكنها غير معروفة العواقب عملياً. وعلى كل حال نظام الحكم في سوريا وفي غيرها لا يسقط بقرار إسرائيلي أو فرنسي، والأرجح أن يؤدي قرار كهذا إلى نتائج عكسية.
قد تنصاع الخارجية الفرنسية رغماً عنها لأهواء رئيسها في جمهورية ذات نظام رئاسي، ولكن في إسرائيل، كما يبدو، هناك حتى بين موظفي الخارجية من لا يبحث بجدية كيف ينفذ رغبات فرنسية متعلقة بموضوعات حب الرئيس الفرنسي وكرهه تصل حد السلم والحرب، كما يروّج عن أمزجة بعض زعماء دول العالم الثالث، وناهيك بأنه لا يعوّل كثيراً على مثابرة الدعم الفرنسي. وأولمرت يعرف أنه لا يستطيع الاعتماد في ذلك حتى على حزبه. الجميع كان سيمتدحه لو «نجح» في لبنان وحده، وها هو يتعرض للإدانة والتحطيم السياسي من دون رأفة لأنه فشل. ها هو يتعرض للجنة تحقيق كان يمكن أن تكون لجنة أوسمة بعضوية الأشخاص أنفسهم لو نجحت إسرائيل في الحرب ولو بضعف عدد الضحايا.
عندما ترشح معلومة أو يُعلن خبر إسرائيلي يدين إسرائيل من نوع امتلاكها السلاح النووي، أو جريمة قتل مئات الأسرى المصريين في سيناء عام 1967، فغالباً ما يتلوها في الصحافة العربية وبجرعات كبيرة السؤال عن التوقيت، وهو يرشح من زوايا التفكير التآمري بصيغة لا تمل ولا تحصى: «ولماذا في هذا الوقت بالذات؟»، وغالباً ما يعبّر السؤال عن ميني ــ مؤامرة للتهرب من مواجهة الحقيقة. فمن لا يريد مواجهة حقيقة تسلّح إسرائيل النووي ولا يستطيع إنكاره يهاجم النشر الذي أحرجه، ومن لا يريد مواجهة إحراج عدم رغبته حالياً في مواجهة سياسية دبلوماسية مع إسرائيل على جريمة مروّعة وقعت فعلاً، يتهم توقيت النشر التآمري عن مذبحة الأسرى المصريين في التلفزيون الإسرائيلي.
وارد بالطبع أن تستخدم أذرع الأمن الإسرائيلية بعض صحافييها وصحافياتها لأغراض من نوع تسريب المعلومات الخاطئة والمضلّلة، ولكن يجب أن يكون هنالك منطق ما يحكم ذلك. لماذا تدين إسرائيل نفسها بجريمة تسيء إلى علاقتها بمصر؟ ثقوا بخيال سؤال: «لماذا في هذا الوقت بالذات؟» الأبدي وقدرته على أن يجد جواباً. فقد وجد جواباً لم يحاسب أحد عليه يتعلّق بالاشتباه في فعنونو، ومفاده أنه يقوم بدور كهذا لتخويف العرب من القنبلة النووية بكشف سرها المعروف. والأخيرة لا تخيف ما دام العرب يعرفون بوجودها ولكن من دون إثبات أو اعتراف مادي قاطع ومحرج. وطبعاً سُجن فعنونو سنوات طويلة في الحبس الانفرادي. أما قصة الأسرى المصريين فتوقيت النشر لمن يتابع كان في كتاب لمؤرخ إسرائيلي صدر عام 1994. وليس ذنب الحقيقة أن العرب ينتظرون التلفزيون الإسرائيلي لكي يكون مصدراً موثوقاً لها، ولا ذنبها أن يشتعل صراع داخلي بين نواب الشعب والحكومة يساهم في النفخ في نار هذا النشر ليتحول إلى ضجة.
ليست فضيحة شيراك هذه، وفضائح أخرى تنتظر أن يتم التحقيق في شأنها بمثل هذا الوضوح، وربما من حق المراقب أن يسأل في شأنها عن التوقيت، وخاصة أن لصحيفة «معاريف» سوابق كثيرة في التسريب عن الأجهزة الأمنية، بما في ذلك نشر الأضاليل، وخاصة أن فرنسا أرخت قبضتها قليلاً في ما يتعلق بإعاقة العلاقة الأوروبية السورية. ولكن التساؤل المحق في هذه الحالة عن توقيت النشر شيء، وتجاهل الواقعة برمتها شيء آخر. وهدف إسقاط نظام الحكم ليس تفصيلاً في علاقات الدول، فكم بالحري إذا كانت عربية، فلا هو نقد مشروع، ولا هو مطلباً متعلقاً بعلاقات ثنائية بين دول ذات سيادة.
ونحن نعرف أن شيراك فقد عقلانيته في سياسة بلده في سوريا ولبنان، لا بسبب انحياز غير مألوف في السياسة الخارجية الفرنسية للقيم والأخلاق يشوش الواقعية السياسية الفرنسية المعهودة التي لا تمتّ للأخلاق بصلة في إفريقيا، وحيَّدت وتحيِّد قيم الجمهورية عن السياسة الخارجية تماماً في العالم العربي، ولا نتيجة حسابات مصالح متعارضة فعلاً وحقيقةً مع سياسة سوريا وقوى لبنانية وغيرها، بل وصل إلى هذا الحد نتيجة تشويش هذه الحسابات بمصالح شخصية وانتخابية متطرفة يحاكم على أقل منها بكثير رؤساء حكومات في إسرائيل والولايات المتحدة.