فؤاد خليل *
تعلّق الموارنة بالتاريخ، شدّتهم فينيقيا إلى عصرها. وجدوا في «شعبها» جبلَّة فيهم. تجار مهرة يجوبون الآفاق. خير سلف لخير خلف. لبنان الحضاري يعود إلى ستة آلاف سنة. طبيعته تولدت مذ ذاك التاريخ. فريد بين البلدان كافة، لا يشبه إلا ذاته. مبدع الحرف وصانع الكتابة. منارة المتوسط على ضفته الشرقية. أرزه دائماً في حماية الرب. ومن يحمه الرب يدخل الأبدية.
درس الموارنة تاريخ العرب والمسلمين، عثروا فيه على صفحات سوداء. هي اضطهاد الأقليات الدينية. لم يتعرّفوا إليها في عصرها. أرجعوها إلى طبيعة ثابتة. هم ميّالون إلى نظرية الطبائع. فتشوا عن ملجأ آمن. وجدوه في لبنان. لبنان حصن الأقليات المضطهدة، ومعقل حمايتها من جور الأكثرية..
أخذهم عهد الإمارة. عدوه بداية لبنان الحديث. عهد حقق الاستقلال الذاتي عن السلطنة. أيّدوا انفتاحه المبكر على توسكانة. صوّروا الانفتاح صنو لبنان. اكتنزوا من دور الوساطة مع الغرب. أفادوا من صراع البشيرين. أفلحوا في الصعود السياسي والاقتصادي. ترجموا صعودهم في المتصرفية. تدرّبوا فيها على موقع السيطرة.
ثبّتوا سيطرتهم في عهد الانتداب. نالوا الامتياز تلو الامتياز، والغنم بعد الغنم. اعتزوا بلبنان المجيد. لبنان تأسس بهم ولأجلهم. وجوده مرتبط بوجودهم. اسم فريد بين الأمم. كان في الزمن التليد كذلك، وسيبقى...
هذا مقتطف إجمالي عن تصور للبنان يعود إلى اتجاه تأريخي أخذ به أعلام من مؤرخي الموارنة ممن عاصروا فترة الانتداب أو ممن عايشوا دولة الاستقلال أو مرحلة الجمهورية الأولى.
والتصور الآنف الذكر، شكّل مرجعية فكرية وسياسية للموارنة الذين يتمثلون هنا بنخبهم المؤطرة في الانتظام السياسي والأيديولوجي للطائفة المارونية، ولقد بنوا من خلال مرجعيتهم تلك موقعهم التمثيلي السياسي. فكان بطبيعة الحال، الموقع الأول أو الممتاز في بنية الدولة في تلك المرحلة...
حظي الموارنة برئاسة الدولة، وكانت رئاستهم ذات صلاحيات شبه مطلقة، فأمسكوا بمواقع القرار السلطوي، وقد ظفروا بالحصة الأكبر من الامتيازات، وتمسكوا بأنصبتهم التمثيلية ورأوا فيها حقاً من حقوقهم «الطبيعية». لذلك، رفضوا المشاركة الحقيقية مع الطوائف الأخرى، وآثروا الهيمنة على الحكم، ولم يصغوا إلى دعوات الآخرين إلى التوازن الطائفي، وعندما عملت الشهابية على تحقيق بعض مظاهره، لم يتأخر زعماؤهم الكبار في تطويق أو الحد من نتائج ما قد جرى تحقيقه، ثم لم يتوانوا في إقفال الباب على أي تغيير أو تعديل في قواعد الهيمنة التي تقوم عليها المعادلات الطائفية سواء في تركيبة النظام أو في مؤسسات الدولة. فأي تغيير في تلك القواعد كان سيقود برأيهم إلى هزّ الكيان والمسّ بحقوق طائفتهم التاريخية، ما عنى في حينه أن نظرة التماهي بين الكيان والنظام والطائفة التي أخذوا بها، ألغت أي مسافة بينهم وبين الدولة: وجعلتهم يعتبرون أن الدولة هي «دولتهم» في «أصلها وفي فصلها»، ويصوّرون أي مطلب ينادي بالمشاركة الحقيقية في الحكم، كأنه افتئات على كيان «دولتهم» وعلى دولة «كيانهم» في الوقت عينه...
بين الاستقلال ومنتصف السبعينيات، وافق الموارنة سياسياً على وجه لبنان العربي، لكنهم أعرضوا عن العروبة كهوية وطنية وقومية له، وأخذوا بلبنانية كيانية متمحورة حول ذاتها. ومع موقف كهذا، تغافلوا عن الفكر العروبي لكوكبة من روادهم النهضويين. وقد عكس تغافلهم عن هؤلاء انحيازهم الفاضح إلى التأريخ الطائفي الكياني للبنان، ما يكشف بصورة أو بأخرى، أن الأرومة الحقيقية لفينيقيا وللإمارة، تعود إلى زمن المتصرفية وعهد الانتداب معاً.
في الحرب تشبّث الموارنة بهيمنتهم الطائفية على الحكم، فدافعوا باستماتة عن امتيازاتهم. لقد ساءهم المسّ بالنظام الطائفي وبصلاحيات رئاسة الجمهورية، وصنّفوها في باب المحرمات، إذ لا يجوز في نظرهم أن يطالها أي تعديل أو تغيير. ولم يرتضوا إقامة التوازن العادل مع الآخرين، ذلك أن الحكم برأيهم لا يستوي أو لا يقوم إلا على هيمنتهم. أما مع ظهور الكانتونات على خريطة الواقع، فقد أظهرت اللبنانية الكيانية طبيعة الهوية التي تريدها للبنان. ومن ثم أفصحت الدولة عن تركيبها الفدرالي الأصلي، بحيث افتضح واقع مكوناتها الطائفية ونظام مشاركتها، وبخاصة بعدما دخل الحكم في الثمانينيات في مأزقه البنيوي المشهود...
في عهد الطائف شعر الموارنة بالإحباط، تكلموا عليه طويلاً ولم يخلُ كلامهم من شيء من المبالغة المقصودة. لكن في مطلق الأحوال، لم تعد الدولة بين «أيديهم» أو تحت هيمنتهم، فانتقلوا من موقع إلى آخر، إذ بعدما كانوا أبطال الدولة وأصحابها المنافحين عنها في الجمهورية الأولى، صاروا طلاباً لها ومن دعاة التوازن في تركيبتها في الجمهورية الثانية، لذلك توجّسوا من الأرجحية الإسلامية على الدولة، ورأوا فيها إخلالاً بقواعد التوازن الوطني ونيلاً من صيغة العيش المشترك بين الطوائف...
في جانب آخر، كان للموارنة قصب السبق في الدعوة إلى رفع الوصاية السورية عن لبنان من أجل استقلاله وسيادته وقراره الحر. ثم قرنوا دعوتهم هذه، بحديث قسم منهم عن عروبة حضارية تحترم خصوصية كل بلد عربي، وتقبل التنوّع وتعمل على إثرائه أو إغنائه ابتغاء أن تكون منفتحة وديموقراطية وفق مقاييس العصر وحقائقه...
وما دعا إليه الموارنة جاء، بعدما لجأوا إلى اتفاق الطائف، للمطالبة بإخراج السوريين، وللقول في العروبة الحضارية تمييزاً لها من العروبات الرسمية. إلا أن واقع التوازنات الداخلية والخارجية المحيطة بلبنان لم يساعدهم على تحقيق ما نادوا أو طالبوا به «لفترة طويلة»...
لكن تسارع الأحداث منذ صدور القرار الدولي 1559 إلى اغتيال الرئيس الحريري مروراً بقرار التمديد للرئيس لحود، أدى إلى بناء مشهد سياسي دينامي غير مسبوق على الساحة اللبنانية. فمع خروج سوريا من لبنان، وصدور القرار الدولي 1595، وما تمخّضت عنه نتائج الانتخابات النيابية في صيف 2005، نشأت توازنات طائفية جديدة ما لبثت ان أخذت تعبّر عن نفسها في تركيبة الحكومة الحالية (حكومة الرئيس السنيورة)، وفي إعادة تكوين السلطة على أكثر الأصعدة والمجالات...
في ظل هذا السياق عادت إلى الموارنة «روحهم الضائعة» طوال خمس عشرة سنة، فلبنان أحرز استقلاله عن الوصاية السورية، والاهتمام الدولي به وصل إلى درجة استثنائية وزعماؤهم أصبحوا بين ظهرانيهم وأحجام المرجعيات الطائفية تعادلت في ما بينها بنسبة كبيرة. والحال، لم يبق هناك ما يمنع من أن يلتقط الموارنة الفرصة لكي يستعيدوا دورهم الريادي في إعادة تأسيس ثانية للكيان. وهكذا أخذ بعضهم يدعو إلى التوازن «العادل» بين الطوائف اللبنانية، ويجد فيه ترجمة لطبيعة العيش المشترك ويعتبر أن كل إخلال «بعدالته» سواء في النظام أو في الدولة يناقض الصيغة الميثاقية للبنان، وقد يفتح الباب على بدائل تأتي على حساب وحدة الدولة والمجتمع فيه. وشرع بعضهم الآخر ينادي ببناء الدولة على أسس جديدة بحيث تكفل رفع الأرجحية الإسلامية عنها، وإعادة التوازن إليها بعدما أُطيح في عهد الوصاية السورية، وحتى لا تبقى عرضة للتنازع الفئوي الذي يهز كيانها السياسي والدستوري بين الفينة والأخرى. لكن انهيار التحالف الرباعي الذي كان قائماً بين حركة أمل وحزب الله وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، أعاد تركيب المشهد السياسي بصورة مغايرة عما كان عليه في مجرى الانتخابات النيابية. فلقد توزع الموارنة والمسيحيون بصفة عامة على طرفين رئيسين: القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. ثم ما لبثا ان انضويا إلى ائتلافين متقابلين. فالقوات اللبنانية انضمت إلى ائتلاف جمعها إلى الأكثرية السنية والدرزية. والتيار اشترك في ائتلاف جمعه إلى الأكثرية الشيعية والأقلية السنية والدرزية، وتبعاً لهذا المشهد وجد ممثلو الموارنة أنفسهم في موقفين متباعدين. فالطرف الأول اشترك في الحكومة وأخذ ينافح عن الدولة ويعتبر أن غياب التوازن فيها، لا يعود إلى استئثار الأكثرية الحاكمة، أي أكثرية الائتلاف المنتمي إليه، بل إلى لاشرعية ولادستورية واقع رئيس الجمهورية. والطرف الثاني ذهب إلى تفاهم مع حزب الله، وشرع ينتقد سياسة الحكومة، ويجد أن فقدان التوازن والمشاركة الحقيقية يعود إلى استئثار وتسلّط الأكثرية الحاكمة، لا إلى وضع رئيس الجمهورية.
وما بين هذا الموقف وذاك، لم يتغير الواقع الفعلي، أي الاختلال في التوازن الطائفي لمصلحة فئة معلومة من أهل السلطة. وجراء ذلك أصبح مطلب المشاركة المتوازنة في الدولة وبخاصة بعد المسار الانقسامي الطائفي الذي آلت إليه حرب تموز 2006، المأمول الأول لدى الموارنة. وهكذا أخذ حزب القوات ينشده من خلال التحالف مع تيار الأكثرية في الائتلاف الحاكم، والتيار الوطني يدعو إليه من خلال التفاهم مع تيار الأكثرية في الائتلاف المعارض. ولعل هذا ما يجعل تحققه موقوفاً إلى حد بعيد على وتيرة العلاقة بين الأكثريتين السنية والشيعية، الأمر الذي قد يبقيه هدفاً منشوداً ليس إلا، لصعوبة تجاوز المعادلات الطائفية القائمة، ولعدم قدرة الطوائف على إنتاج توازن عادل في ما بينها سواء في الحكم أو في خارجه. وبالتالي ما قد يضع الموارنة والمسيحيين عامة بين حاجة راهنة تلحّ على تحقيق مأمول المشاركة، ونوستالجيا تكمن في طويّتها رغبة دفينة في تأدية دور رئيس في إعادة تأسيس ثانية للكيان والدولة على حد سواء...
(الخميس المقبل: الشيعة وموقع التعادل مع الآخرين)
* باحث لبناني