حازم صاغيّة *
في علاقة جوزف سماحة بالسياسة، وفي نظره إليها، تداخل الذكاء الموصول بالأفكار، بعزّة النفس الموصولة بالكرامة، فكأنّنا حيال فيلسوف مشوب بقبضاي: الأوّل يتأمّل ويحلّل ويوغل في المسائل، والثاني يمسك شاربيه متعهّداً، ملتزماً، واقفاً عند كلام قاله لا يتزحزح عنه.
فجوزف لم يكن فكرانيّاً بحتاً يرى الى العالم مثلما يُرى الى حركة النجوم، ولا كان كراميّاً فحسب «يستفّ ترب الأرض...»، على ما قال شاعر جاهليّ شاء ألّا يمدّ يده الى «امرىء مُتطوّل». فهو لم يُعنَ، مثلاً، بمحاولة لويس ألثوسير البرهنة على ان الماركسيّة «علم» لا «إيديولوجيا». وحين نبّهنا البعض، ولم يكن نبتَ لنا ريش، الى ضرورة الحفول بالعلوم التطبيقيّة، قال لي ساخراً: وهل يغيّر ذلك في الموقع الطبقيّ لهنري فرعون؟
وهو، كذلك، لم يكن قوميّاً، أو محليّاً، ينصر أهله وقومه ظالمين كانوا أو مظلومين، ولا انخدع بالذين أشهروا سيوفهم في وجه «الغزوة الكولونياليّة» لدى وفادتها الأولى، ثم فجّروا أجسادهم في جسدها ولا يزالون يفعلون. فقد كان مدركاً، حادّ الإدراك، حدود قولهم وحدود فعلهم، متنبّهاً الى الهوّة التي تفصلهم عن «التقدّم»، ذاك الركن المكين في وعيه الأصليّ.
لذا رأيناه، خلال مسار طويل نسبيّاً ابتدأته هزيمة حزيران 1967، يؤلّف الثنائيّات ويلحم واحدها بالثاني. هكذا انعقدت ثنائيّته الأبرز بين الماركسيّة ــ اللينينيّة والقوميّة العربيّة في زيّها الناصريّ، استلهاماً منه لفريدريك إنغلز حين رأى أن بيسمارك، بتوحيده ألمانيا، «يقوم ببعض مهمّاتنا». فماركسيّة جوزف لم تكن طبقة عاملة إلاّ استطراداً، ولا كانت نقداً للدين بوصفه «مقدّمة كلّ نقد». أمّا مسائل المرأة والعنصريّة والتنظيم الاجتماعيّ، مما يمكن ردّه الى الماركسيّة الأوروبيّة أو اشتقاقه منها، فلم تُلهب خياله ولا استولت، مرّةً، عليه. لقد مال، طبعاً، الى الطبقة العاملة ونقد الدين، مثلما تعاطف مع مساواة المرأة بالرجل ومع حداثة التنظيم ورفض العنصريّة. غير أنه تعامل مع القيم هذه كمثل من يخبّىء في خزائنه مؤن الموسم المقبل، فلا يأكل في شتائه ما يجدر تركه الى صيف مقبل.
راهنُه والمستحوذ عليه ظلّ «الاستراتيجيّ» وما ينجرّ عنه من تعويل على «دور مصر المركزيّ»، ومن تصدٍّ لـ«مخطّطات الهيمنة» الأميركيّة والإسرائيليّة على المنطقة. وبموجب المنظور هذا، لم تكن فلسطين أرضاً للاستعادة وشعباً للتحرير قدر ما كانت أكبر نقاط التقاطع الضدّيّ بين «الأمّة العربيّة» و«الطامعين فيها». وبحسّه الاستراتيجيّ هذا، عرف جوزف أن المعارك الموضعيّة خاسرة سلفاً، وأن خائضيها محاصَرون في قلاعهم مخنوقون. هكذا تبدّى له أن الربط بين المأساة الفلسطينيّة والمحرقة اليهوديّة يوفّر المدى الذي يحتاج إليه المقاتل لقتاله، مثلما يحتاج إليه الوجدان المحليّ كيما يغدو وجداناً كونيّاً. وهذا وذاك لا يلغيان حساسيّة جوزف المرهفة حيال الألمين اليهوديّ والفلسطينيّ، وهو مرهف حيال الألم. غير أنه، منذ معرفتي به، لم يجذبه أيّ من العناصر والاعتبارات قدر ما جذبه ذاك الاستراتيجيّ. فهنا تلاقت الأفكار التي سعى وراء أوراقها، كتباً كانت أو صحفاً أو تقارير ووثائق، سعي الفئران وراء الورق، بالكرامة التي ظنّ أنها لا تتحقّق للعرب من دون انتصار على ذاك «العدوّ الظالم»، وإلّا فلينشأْ توازن معه يجيء أقرب الى استجابة المصالح العربيّة والتعبير عنها. فالمسألة تلك كانت، وظلّت، هي الجَدّ و«التحليل الأخير»، فيما الانشقاقات داخل الجماعة الواحدة، أو المواءمة بين الجماعة المعنيّة وقدرتها على إنجاز ما تطرحه على نفسها، فبقيت أقرب الى عناوين مؤجّلة. هناك الطبق الدسم. هنا المقبّلات.
وكثيراً ما كان يتذكّر قصّتنا مع نعمان ويذكّرني بها، يوم استقبلَنا ذاك الشيوعيّ الريفيّ والمسنّ واحتفى بنا شبّاناً وافدين الى الشيوعيّة. إلاّ أنه ما لبث أن صارحنا، وهو مطرق حائر في أمره، بعجزه عن فهم عدائنا للاتّحاد السوفياتيّ في لحظة عابرة من اعتناقنا «اليسار الجديد». فنعمان، كما شرح لنا حاله، إنما جاء الى الشيوعيّة كيما يحظى بدعم السوفيات وإلاّ فلماذا الشيوعيّة أصلاً؟! وجوزف كان كلّما روى الحادثة تلك أرفقها ببسمة تتعاطف مع حكمة نعمان «الاستراتيجيّة».
والحال أن «أبو الزوز» كان يعشق «لعبة الأمم» مثلما الأطفال يعشقون ألعابهم. فحين كنت أستمع إليه يجمع ويطرح، أو يضرب ويَقسم، كنت أخال أنني أمام أستاذ رياضيّات أو ربّما أمام كيميائيّ يشرح المعادلات التي ركّبها للتوّ وطبّقها على السياسة. وغالباً ما تراءى لي أنه يتوزّعه شخص المحلّل الذي كانه وشخص الصانع للعالم، المالك ناصية الحدث، بل الكاسر عينه وعنقه. والأمر كان مرّةً يلوح تقمّصاً، ومرّةً تماهياً، ومرّاتٍ نزاعاً بين الشخصين اللذين فيه.
لكن المعادلة كانت، ما إن يقع عليها، حتى تصير جناحين يطير زهواً بهما، فينتشي انتشاء طفل لم تخذله لعبته، وعلى مدى وجهه تسطع بسمة حبيبة وظافرة معاً. وهو، بوصفه هذا، كان مشروع سياسيٍّ خارق لولا أن تفاهة سياستنا لا تتّسع لمعانيه، بينما ضحالة سياسيّينا لا تتّسع لنُبله. ولربّما وجد في «منظمة العمل الشيوعيّ» تمرينه الأوّل على «ممارسة» عاد منها بطعم مُرّ في فمه وروحه. فهو كلما صعد بنفسه الى العالم بوصفه خرائط وأحلافاً ومصالح استراتيجيّة كبرى، شُدّ من سترته الى ذاك العالم بوصفه زواريب أو توافه.
وعلى أيّة حال، كان للصحافة أن أعطته التعويض هذا أو بعضه الكثير. فهي التي أتاحت له، عبر المقالة، أن يمارس شبقه الكلاوزفيتزي، مثلما أتاحت له ردهات مبانيها والصداقات مع زملائها أن يمارس توقه الى روبن هود. فكان، من ثم، يتأرجح بين «حزب» للأفكار عابر للقارات، و«حزب» لمجموعة صغرى تتحلّق حوله، بها يُستعاض عن الأحزاب والسياسيّين.
بيد أن «أبو الزوز» حاول، في جلّ ما فعله، ألّا يستسلم للبساطة والتبسيط. وهو، أحياناً كثيرة، كان يضبط نفسه متلبّساً بهما، وأحياناً أخرى كان يتقصّد أن يبسّط نفسه «متكتكاً»، إذ «الاستراتيجيّة» التي يراها معقّدة تتطلّب ذلك. والحقّ أن ثنائيّته الثانية التي رمز إليها ياسين الحافظ والياس مرقص لم تصدر إلاّ عن ميله إلى أن يكون، بطريقته، على قدر من التعقيد والتركيب. فالمثقّفان السوريّان الراحلان كانا أيضاً ماركسيّين وقوميّين على هواهما. إلاّ أنّهما، كذلك، كانا عقلانيّين وحداثيّين مُرّي النقد لما تراءى لهما لاعقلانيّاً في سياسات العرب.
وإنّما بالمعنى هذا، تكاملت، لدى جوزف، عدّة مفهوميّة تدور على مدارين: أولويّة الدول على المجتمعات، وأولويّة السياسة على الاجتماع. فالدول ينبغي أن تُنظّم عقلانيّاً وقوميّاً لكي تستطيع مواجهة التحديات الماثلة في وجهها، وأبرزها ذاك المتجسّد في اسرائيل، غالبة العرب ومُذلّتهم في 1948 ثم خصوصاً في 1967. ولئن كان من المفضّل نشر وعي حديث وحداثيّ يخترق الكتل الشعبيّة العريضة، فالحرب بالموجود والمتوافر لا ينبغي استبعادها ولا التفريط فيها أو الحياد إزاءها. أولم يقل ماركس إن الكوميونيين الباريسيّين يقاتلون السماء، غير أنه... في جانبهم؟!
لكن الزمن، زمننا، ليس للاستراتيجيّ والسياسيّ، على ما كنت أقول له ولا يسمع. وهذا، في أغلب الظنّ، ما وضع ثنائيّات جوزف أمام مأزقها القاتل. ذاك أن ما كانت تتقيّأه أرضنا كان يغمرنا، فائضاً عن زعم سيطرتنا، بأدوات السياسة والاستراتيجيا، على الأرض هذه. فإذا ما هُضم استبدال الأحزاب الشيوعيّة بعبد الناصر، عملاً بفتوى إنغلز، فإن الاستبدالات التي راحت تتلاحق لم تترك مكاناً لياسين الحافظ. فلا مصر مصر، ومن الناصريّة لم يبق إلاّ نُصبها، إن لم نقل طللها. أما الثورة الفلسطينيّة فآل بها المطاف الى «سلام عابر» مقته جوزف، فيما الدمار أحاق بالاتّحاد السوفياتيّ وكتلته وتقلّصت الأحزاب الشيوعيّة الى أخويّات حسنة السلوك.
لقد اختلف العالم الذي نهض عليه تفكير المرحلة السابقة اختلافاً بيّناً، بل نوعيّاً. فالدول والمجتمعات والطبقات أبدت من قابليّات التفجّر الجيولوجيّ أكثر كثيراً مما أبدته من قابليّات الانتظام الاستراتيجيّ والهندسة السياسيّة. وإذ شرعت الأسواق تطرد العملات المتداولة، راح يتبدّى أن تحدّيات غير عاديّة تواجه ثنائيّة الأفكار والكرامة. ذاك أن الساحات، وقد خلت للطوائف والعشائر، بعضها «يحرّر» وبعضها يناهض «التحرير»، أفقدت المرء قدرته على اختيار «حلفائه الموضوعيّين». وبهمّة «الاستراتيجيّ»، صار التحليل النبيل والذكيّ مدعوّاً الى الوقوف على مقربة من قَتلة ورجال استخبارات وسجّانين. وألحّ «الحسم» على جوزف، فطوّع الأفكار للكرامة التي أضحت، بدورها، وظيفيّة جدّاً، تشتعل هناك وتخبو هنا.
بيد أن جوزف لم يكن سعيداً بفقده القدرة على الخيار تحت وطأة «الحسم»: فهو حرّ، والحرّ يؤرّقه ذلك. وهو أرّقه بالمعنى الوجوديّ للكلمة: ففيما كنّا نصعد أدراج بيته، في رحلتي قبل الأخيرة الى بيروت، صارحني بأنه خائف «من نفسه» لأن غضبه أصبح يعلو كلّ اعتبار آخر. وهو ليس الغضب البحت سيّده يستبدّ به ويصادر منه شفرته النقديّة.في هذه الغضون كان صديقه سمير قصير قد اغتيل، فاستحال جوزف دموعاً. ولمّا بدأت الحرب الأهليّة وحدها تلوح في منعطفات الطريق الطويل والوعر، تمنّى «أبو الزوز» لو يكون «ناقداً أدبيّاً»! هذا ما قاله لي في السهرة التي سبقت وفاته.
* كاتب لبناني