نسيم ضاهـر *
وُصِفَ الاتحاد السوفياتي يوماً في كتاب صدر في مطلع السبعينيات بعملاق على قدمين من طين. كان ذلك التشخيص المبكر لمراسل صحيفة «الإنسانية» الفرنسية بمثابة الصدمة للعديدين الذين رأوا في بلد الاشتراكية الأول جباراً في أوج الحرب الباردة ينازع الولايات المتحدة عسكرياً ويأمل تخطيها اقتصادياً عبر التنافس السلمي. نسوق هذه المقدمة للدلالة على أهمية معاينة البنية، وعدم الأخذ حصراً بظاهر المسألة. وسنعمل في نطاق هذه المقالة على ما يشبه الصورة الشعاعية للمعارضة، لبيان وتبيان عوامل قوتها ومكامن الضعف والخلل في هيكلها.
اكتسبت المعارضة حِدِّيتها المعرِّفة إثر انفضاض وزراء أمل وحزب الله عن الحكومة، المتبوع باستقالة الوزير الصرَّاف وانحياز رئيس الجمهورية الصريح إلى صفها. مذ ذاك، ارتاح التيار الوطني الحرّ إلى الجامع المشترك الوليد، وطلَّق أوصافاً درج على استخدامها تباعاً لتظهير علاقته بحزب الله، تراوحت بين تفاهـم خجول في بداياته، تطوّر إلى تفهم وتعاطف خلال حرب تموز، وقارب التحالف الضمني في نهايتها، قبل أن يقفز إلى اندماجية عملانية تأسست صريحاً وجاهرت بحالها من موقع النقيض للحكومة المنقوصة والند العنيـد. جاء حزب الله (وأمل) إلى حقل زرعه العماد عون مع تكتله وحلفاء لوائحه الانتخابية، وطويت صفحة إشكالية مزمنة اختلفت فيها المواقع بين مقيم خارج السلطة ومعترض من داخل مجلس الوزراء.
واقع المعارضة القائم منزل بأجنحة ثلاثة مع منتفعات، إذا جاز القول، تطل على حديقة داخلية اسمها ساحة الاعتصام وتتوزّع أرجاءها. يجلس حزب الله في صحن الدار ويزوِّد مضافته، ركنٌ خصَّ به الجناح الأساسي، يجاور التيار الوطني الحر، ويفرد غرفة جانبية مفروشة بالطنافس لحركة أمل. ولمزيد من حاجات الاستيعاب، أضيف ملحق لصيق بالبناء حُشـر فيه رهط اللقاءات الوطنية بفصائله وأحزابه وهيئاته المجتمعة تحت العباءة السورية تقليدياً، على مقربة من مستحضرات العهد الممدّد له التي تفتحت دعاة وتيارات تملأ الباقي من أروقة ضجيجاً ونبرة صدامية ووعيداً للسرايا. أحسن حزب الله الجزاء باعتراف القريبين والخصوم على السواء، وعمل بإتقان وحرفية مشهودة على احتضان الوافدين بسعة صدر وطول أناة، فما عُرِفَ منه تذمر وضيق ذرع بحليف، يحرص بلباقة على التزامه قاعدة المساواة بين غير متساوين، ومراعاة رفاق الدرب والمساكنة في المظهرية والأداء. جـرّاء هذا السلوك ترتبت عليه إعارة المنابر والحضور وتوفير المواد اللوجستية والموارد والمنصات الإعلامية، لا يتوانى التغاضي عن أحجام وأوزان المكونـات بغية إبراز أدوار أطياف المعارضة كافة وترسيخ الانطباع بمشاركتها الجماعية المتكافئة في بلورة المبادرات وصنع القرار.
يخفي تزيين الواجهة حقيقة الموجودات كما تتستر المساحيق على العيوب. فالعمليات التجميلية كفيلة بتحسين الصورة لا بتنشيـط الأعضاء، وهي في مطلق الحال، بديل عن عافية منشودة صعبة المنال. إنْ تفاوتاً بالغاً يلف عائلة المنضوين تحت لواء المعارضة، مهما جرى التنصل من وجوده والتبرؤ من مفاعيله. ولو شئنا تفحص الجسد العاري، لوجدناه مثقلاً بأعراض بنيوية صارخة عصية على النطاسة والجراحة، يأبى حراس الهيكل الإقرار والمكابرة.
ولئن كان رصيد حزب الله الشعبي بغير منازع، يؤلب الشريحة الأوسع من الطائفة الشيعية، فهو العمود الفقري والصخرة لمجمل المعارضة، لا يقارب جماهيريته حليف، يتبوأ بامتياز ناصيتها ويمسك بمفاصل حراكها. وعليه، ثابر الحزب على حقن ميسرتهِ وميمنتهِ بالمقويات ولم يأل جهداً في سبيل إنعاش المتخلفين ومدهم بالدعم على مختلف المستويات، وصولاً إلى رفدهـم بالعناصر والخبرات وإجلاسهم في مقاعد قيادية لا يملكون أهلية تخوِّلهم ممارسة أعبائها والإمساك بدفتها.
تربط الحزب بحركة أمل صلة رحمية جعلت منهما يوماً شقيقين لدوديْن، وانتهت إلى ثنائية تكاملية يسودها قدر عال من الوئام والتجانس نتيجة اقتناع «الشقيق» الأصغر والأفعل بضرورة التعايش في إطار من التنوّع الظاهر داخل الطائفة الشيعية والحرص المتبادل على وحدتها السياسية. ولقد أفسح الحزب عملياً للحركة متسعاً في الحقل السياسي، تستظل بالمقاومة وتنهل من مشاربها كذراع سياسي في الدرجة الأولى خف وجوده الميداني بعامل الزمن وكبرت حصته المحفوظة من مقاعد نيابية ومناصب في السلطة. ولقد اتسمت هذه الهندسة بلون من اللياقة الصادقة والتشريف المعنوي، ابتعد عن الإشعار بمِنَّـة والتذكيـر بمقدار نصيب غير مستحق، فما ابتغى أن تكون الحركة رديفاً أو نصيراً للحزب، بل دأبَ على التقيد بمفهوم الأخوة النظامية واعتبار الحركة ظهيراً للحزب وشريكاً في السراء والضراء، رغم تمايز المنطلقات واختلاف مسافة كل منهما عن الثورة الإسلامية في إيران ورموزها ومرجعيتها.
على ضفة مواجهة، يقف التيار الوطني الحر بعد أن طوى برنامجه ووثائقه المؤسسة، وحدد لبدء زمانه السياسي الحاضر تاريخ وثيقة التفاهم الموقعة مع حزب الله في شهر شباط عام 2006. قطع التيار أميال الرحلة بسرعة مذهلة، واجتاز نهر الروبيكون غير عابئ بالتداعيات والهزات الارتدادية الناجمة عن انتقاله من رابية المشاكسـة إلى معسكر المُناهضة، يتوسّل تكتله أسبوعياً رداء الإصلاح الدستوري على الطريقة السويدية، ويلبسه القادة الإيرانيون بزَّة القتال والمقاومة. لم يكن مقدراً، في البدء، أن يجسِّـر التفاهـم الهوَّة الفاصلة بين التيار وحزب الله، لأن صياغة الوثيقة المشتركة جاءت بمبادئ عامة وتعابير ملطفة أثمرت فتحاً إيجابياً واعداً في العلاقات بين طرفين متباعدين في النشأة والبيئة والأسانيد العقيدية، خارجين من اصطفافات انتخابية متنافرة في دائرة بعبدا ــــــ عاليه المفصلية. غير أن عوامل غير معلنة من كلا الجانبين سرعان ما قلبت المعادلة جذرياً، وجعلت من التيار ركناً يُحاكي الحزب من الجناح المسيحي وينخرط معه عضوياً في المعركة القاسية الراهنة من موقع الحليف الموثوق على قاعدة الندية والاعتبارية الكاملة.
إن ثمَّة قطبة مخفية في هذا الشأن، تنتظر كشف النقاب عن سببيتها. والمرجّح أنّ دوافع العماد عون تتصل بالتزامات سابقة ووعود قطعت لطرف خارج دائرة العلاقات الثنائية مع حزب الله. وإذا ما استدلّ بمواقف التيار خلال فترة الاعتصام، يتبدَّى أن جعبته تكفلت بطروحات تجاوزت (أو فاجأت) الحزب حيناً بعناوينها الفاقعة وتسببت له ببعض الإحراج. لذا، وجب البحث عن الأمر ومرده من منظور المسيرة العونية الحافلة بالانعطافات الحادة والمراهنات المجبولة بشخصانية مؤكدة وطموحات غير بعيدة عن القراءة الانتقائية للوقائع الإقليمية والدولية، المعتدَّة في قياس القوة الذاتية ومخطئة في التعويل على استتباب الخلاصية والخلاص في يد الجنرال ووفق مزاجه. هنا، يسجل على حزب الله قاطرة المعارضة، انزلاقه من الغَزَل السياسي المشروع مع التيار، إلى افتتان بأصالتهِ ورصانتهِ، وتعظيم طاقاتهِ وصفته التمثيلية الدائمة أبداً، فضلاً عن الإشادة بصلابة قناعاته الوحدويـة والاستنتاجات المستخلصة من معطيات رقمية جامدة طُبعت بالظرفية «الانتهازية» واستثمار نقزة الناخبين المسيحيين من حلف رباعي شارك فيه الحزب واقتصر أركانه على الطوائف الإسلامية حصراً.
لا شك أن فريق المعارضة يتعدّى بتنوعه المكوِّنات الصلبة، ومن الإجحاف وقصر النظر سوء تقدير خاماتهِ واحتياطاته ورقعة انتشاره وقدرته على التعبئة ولحمته. لكن تكاوينه لا تحددها رافعته الأساسية والمعترف بها، عنيتُ حزب الله ، بل يتداخل في بلورتها وصنعها حليف المقاومة ردحاً المتمثل بالنظام في دمشق. فعلى جاري عادته واحترافه المناورة واستخدام البيادق والأوراق، أوكل إلى فيلق كامل من أنصاره ومريدي ريفه مهمات خاصة ضمن حلقة المعارضة الواسعة، وأوصى بهم حريصاً وفياً للعهد، عليماً بأهمية بوابة سوريا مقراً وممراً للدعم والمؤازرة. الجديد اللافت أنّ الطاقم اللصيق بسياسـات دمشق، بقديمه العائم طوال حقبة الوصاية، وجديده المُستنسخ دكاكين وقنابل صوتية ولفيف مرابطين حول القصر الجمهوري، زُفَّ وابتهج برعاية العماد عون وحبوره بارتياد وفود القادميـن إلى مجالسه وانضمامهم إلى الواثقين من حكمته وأهليته للاستمرار بالنهج. وتجدّد الملاحظة أن صخب الأفرقاء الثانويين (بالمعيار الشعبي لا بالخيم المنصوبة) واستنفارهم اللفظي أقحما المعارضة في سوق شعبوية خالصة، واقتحما طابق قيادتها العلوي ومناسباتها ومحافلها، ينفخون أبواق المزايدة والتخوين، ويسرحون في ضيافة برج بابل الجديدة المسوَّرَة إزاء الخارج، والفخورة بالضبط والانضباط.
هل تؤخذ المعارضة بجريرة أطراف من قوسها العريض، أم أن الأعطاب البائنة ضريبة حتمية يدفعها القوي عربوناً على مذبح التنوع والتعددية؟ قد نجد أسباباً تخفيفيّة لو أن المآخذ ناجمة تلقائياً عن أقدار الائتلافات، وصعوبة محاصرة الشاذ والمغالي والنافر تبعاً لمنطق الاختلاف ضمن الوحدة ومساحة الحرية العائدة حُكماً لكل الأطراف عملاً بالعُرف الديموقراطي. بيْـد أن نسق المعارضة اللبنانية يخالف النمط الجبهوي المتعارف عليـه، الذي يفترض معيارية مبدئية ومرجعية، إضافة إلى مشتركات جوهرها تغييري صريح، تجتمع على بدائل محددة، وتفي بانسجام أطرافها مع الغايات المتوخاة.
لا تحقق المعارضة إضافات نوعية وشعبية من خلال لعبة التشكيلات الطفيلية والفطريات التي تُشوِّه بنيتـها وتشدها إلى العمل المُمسرَح والعداوات. ولا نظنّ أنّ حزب الله غافل عن حقيقة حلفائه وأحجامهم وصورتهم بين الناس. وإذا كانت نزعة الانتهازية والميل السلطوي محرك جماعات وصوليّة وجدت في جبهة المعارضة مطيّة وسلّماً تتسلقه بغطاء المقاومة ولهجـة المصادمة، يبدو جلياً أن حزب الله يتكئ راغباً على حواضـر البيت ويأنس إلى كثرة التلاوين والتمويـه، كأنما شجيرات الحلفاء من أصحاب حيثيـات متآكلة أو متواضعة وما دون، قادرة على حجب غايته. إن جبهية المعارضة كائِن هجين أضفى عليه حزب الله المشروعية وشحنه بالعدة والعتاد، يعتاش من سخائه ويفلح بفلاحـه. حزب الله وحده المبتدأ والخبر، والباقي ــــــ مع الاحترام والسلام ــــــ ملحقـات وتفاصيل وفقاعـات.
وإن سألتَ مُحقاً أين المردة والطاشناق والشيوعي الذي (يطرق الباب ولا يجتاز عتبة الدار) من التوابل والمُجنّسين والمُجنَّدين بعون الحزب وأعوانه، أوَليسوا أصحاب قضية ومراس وأسبقية وجود وهوية، وجب الاستدراك حتماً والإشارة إلى خصائصهم وبواعثهم. كلّ منهم يحمل دفاتره القديمة، عين على مصائب الانتخابات والحريرية، بيرق السُّنية السياسة العامِرة واصل البلية، وعين، من طرف خفيّ، على حلف الأقليات، وعود على بدء.
* كاتب لبناني