محمد خواجه *
سعت سوريا بعد هزيمة حزيران 1967 وخسارتها هضبة الجولان الى تحقيق توازن عسكري مع اسرائيل، وذلك بإعادة بناء قدراتها العسكرية، وتدعيم الجبهة الشرقية مع مصر، قبل أن تخرج الأخيرة من الصراع العربي الإسرائيلي، بعد توقيع اتفاقية كمب ديفيد. فاستدارت دمشق شرقاً لتحسين علاقتها مع بغداد، إلا أن وصول صدام حسين الى قمة السلطة، أجهض المسعى السوري حينذاك.
أدى سقوط بغداد في 9 نيسان 2003، الى فقدان سوريا العمق العراقي. وأصبحت القوات الأميركية على حدودها الشرقية. وأتى خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 ليفقده مجالاً حيوياً لانتشار قواته.
أدركت سوريا المخاطر المقبلة، باعتمادها سياسة حسن الجوار مع تركيا، إثر توقيع اتفاق أضنة في تشرين الأول 1998، بعد عقود من العلاقة المتوترة، الناجمة من ضم تركيا لواء إسكندرون السوري، ومشاكل المياه، والتعاون العسكري مع تل أبيب، واتهام سوريا بمساعدة مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
على الرغم من كل العوامل الجيوسياسية غير المؤاتية، بقي الصراع ضد إسرائيل من أولويات السياسة الدفاعية السورية التي تأثرت بشدة بانتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، حيث أدت تلك التحولات الى حرمان سوريا الحليف الاستراتيجي الرئيسي الذي تحصل منه على احتياجاتها التسليحية. واستمرت العلاقة مع روسيا الاتحادية، إلا أنها باتت أشبه بعلاقة شريكين تجاريين، بعدما كانت بين حليفين. فاعتمدت موسكو سياسة السداد النقدي مقابل صفقات السلاح، مع المطالبة بالديون العسكرية المستحقة عن الحقبة السوفياتية.
كل هذه العوامل مجتمعة، وعزوف العديد من الدول العربية عن تبنّي الصراع مع إسرائيل بعد حرب الخليج الثانية، دفعت بسوريا الى التخلّي عن «التوازن الاستراتيجي» الذي سعى إليه الرئيس الراحل حافظ الأسد، منتصف الثمانينيات، ومالت الى فكرة الحرب «غير المتماثلة» لتجعلها لبّ استراتيجيتها الدفاعية الجديدة المرتكزة على أربعة عناصر أساسية:
1 ــ اقتناء الصواريخ البالستية المتوسطة والبعيدة المدى، بهدف بناء ذراع هجومية طويلة، تمنح سوريا قدرة معينة على تهديد العمق الإسرائيلي. وأخيراً، نشر الخبير الإسرائيلي زئيف شيف تقريراً في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تناول فيه سعي الجيش السوري الى تعزيز قدراته، وتطوير ترسانته الصاروخية. ويعتبر شيف «ان التركيز السوري على الصواريخ والقاذفات الصاروخية، لتعويض الضعف البارز لسلاح الجو السوري، وبدل ضرب إسرائيل من الجو، يبني السوريون قوة نار هائلة بواسطة الصواريخ، ليستطيعوا قصف المدن الإسرائيلية عن بعد على نحو خطير، وتكون إصابة المواقع العسكرية داخل إسرائيل في منتهى الدقة»(1).
أدى نجاح المقاومة اللبنانية، عبر استخدام القصف عن بعد بواسطة صواريخ أرض ــ أرض التكتيكية، وشلّ مناطق شمال فلسطين طوال الحرب، إلى تشجيع السوريين الذين يملكون مخزوناً صاروخياً يضاهي أضعاف أضعاف ما تملكه المقاومة، كمّاً ونوعاً.
نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» خبراً عن قيام السوريين بإجراء تجربة إطلاق صاروخ «سكاد دي» (400 كلم) ناجحة. ونقلت الصحيفة نفسها عن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، «ان تعديلات أُدخلت على الصاروخ جعلته أكثر دقة وفتكاً، وأشد صعوبة على الإسقاط»(2). وتزامن الخبر مع إعلان نائب وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال إفراييم سنيه، نجاح تجربة إطلاق الصاروخ الإسرائيلي «حتس» (السهم) المضاد للصواريخ.
ونشرت الصحف العبرية خبراً بأن دمشق تحاول إقناع موسكو ببيعها صواريخ أرض ــ أرض متطورة من طراز «إسكندر ــ إيه» الذي يبلغ مداه 280 كلم، ويمكن تزويده رؤوساً متفجرةً من أنواع مختلفة، ويمتاز بالدقة العالية، إذ لا يتجاوز هامش الخطأ فيه خمسين متراً. وهذا الصاروخ البالستي قادر على التملص من المنظومات المضادة للصواريخ. وتشير المصادر الإسرائيلية إلى أن الروس ما زالوا يرفضون طلب سوريا حتى الآن.
أثار التركيز السوري على تعزيز وحدات السلاح المضاد للدبّابات، قلقاً لدى القيادة العسكرية الإسرائيلية، ولا سيما بعد الخسائر التي تكبّدها سلاح المدرعات الإسرائيلي خلال حرب تمّوز. وكان الخبير العسكري الروسي فيكتور ليتوفكين قد علّق على صراع الصاروخ مع الدبابة بالقول: «ان حزب الله قد دمّر على أقل تقدير فرقة مدرعة من مجموع الفرق السبع التي يضمها الجيش الإسرائيلي»(3)، بينما اعترف الإسرائيليون بإصابة وتدمير ما يقارب لواءً مدرعاً.
كتب المحلل العسكري الإسرائيلي «أليكس فيشمان» في صحيفة يديعوت أحرونوت أن مفاوضات تدور بين روسيا وسوريا حول صفقة صواريخ مضادة للدروع متطورة من طراز «كريزنتما» وهو خليفة صاروخ كورنت الذي أبلى بلاءً حسناً، يصل مداه ستة كيلومترات، ويتلقى الأمر بشكل مزدوج، من خلال جهاز رادار متطور جداً، لا يملكه أي صاروخ مضاد للدروع في العالم، ومن جهاز الليزر القادر على تشويش أجهزة التصدي للصواريخ. وصاروخ كريزنتما قادر على اختراق تدريع كل أنواع الدبابات. وينقل فيشمان عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية: «أن الجيش السوري يتزوّد الآن مجموعةً كبيرةً من الصواريخ المضادة للدبابات، في إطار التطوير الذي يجتازه، استناداً الى الدروس التي استخلصها من حرب لبنان»(4).
2 ــ يدرك السوريون أن أية مجابهة عسكرية مع القوات الإسرائيلية، تفترض وجود منظومة دفاع جوي متطورة لتصحيح الخلل الناجم من فقدان التوازن الجوي. إذ على الرغم من النتائج الباهرة التي حققتها المقاومة في المواجهات البرية، إلا أن عدم توافر الوسائط الفعالة المضادة للطائرات، سمحت لسلاح الجو الإسرائيلي بممارسة قدرته الردعية، وانتقائه أهدافاً على الخريطة اللبنانية سواء أكانت مدنية أم عسكرية. هذه المعضلة يدركها السوريون ويسعون لحلها.
منذ ربع قرن تنبّه السوريون إلى هذا الأمر، عندما أسفرت المواجهات الجوية التي دارت في سماء لبنان بين سلاحي الجو الإسرائيلي والسوري عام 1982، عن سقوط ما يزيد على 80 طائرة سورية، مقابل لا شيء لدى الإسرائيليين. وأتاح التفوق التقني الإسرائيلي تعطيل صواريخ سام المرابطة في سهل البقاع وتدميرها. ويقول الكاتب الإسرائيلي عوفر شيلح: «قرر حافظ الأسد بعد حزيران 1982، أنه لم يعد في حاجة إلى سلاح الجو، لأنه أدرك أنه لن يستطيع التعاطي مع القوة المتطورة لسلاح الجو الإسرائيلي، لذا بدأ السوريون يبحثون عن التوازن في مكان آخر»(5).
وكانت القناة الثانية للتلفزة الإسرائيلية، قد أذاعت: «أن اسرائيل تعارض بيع روسيا صواريخ مضادة للطائرات من طراز (إس ــ 300) الى سوريا، تقدر قيمتها بحوالى مليار دولار»(6). وتدّعي المصادر الإسرائيلية أن إيران الحليف الاستراتيجي لسوريا تموّل هذه الصفقة.
منذ عام 1999، تسعى سوريا للحصول على منظومة صواريخ «S-300VM» ذات الفعالية العالية، وهي أحدث تعديل لمنظومة «S-300V» سام 12، التي تصنعها شركة (Concern Antey) الروسية. أُدخل صاروخ (إس ــ 300) الخدمة ضمن سلاح الدفاع الجوي الروسي منذ عام 1996. ويؤكد الخبراء أنه قادر على إسقاط الطائرات الإسرائيلية فوق المناطق الشمالية لفلسطين.
من ناحيتها، تجهد إسرائيل لوقف هذه الصفقة، وبحسب المصادر الإسرائيلية، فإن رئيس الوزراء إيهود أولمرت بادر إلى الاتصال بالرئيس الروسي بوتين مرات عدة في الأسابيع الماضية، موضحاً أن بيع صواريخ هجومية لسوريا يبعث على عدم الاستقرار في المنطقة، وأوفد وزير الشؤون الاستراتيجية أفيغدور ليبرمان الى موسكو، لإبلاغ المسؤولين الروس بالقلق الإسرائيلي.
ورأى نائب رئيس الحكومة شيمون بيريز: «أن تزويد سوريا بالسلاح بمثابة حقنة تشجيع لدمشق على الذهاب للحرب»، مضيفاً أن «سوريا تتأرجح بين رغبتها في السلام، وإغرائها بشن الحرب، وتزويدها بالسلاح محفّز»(7).
3 ــ منذ أواخر التسعينيات، بدأ الجيش السوري يعزز أفواج القوات الخاصة التي تماثل بأسلوب قتالها أسلوب حرب العصابات. وتعتمد نظام تسلّح مناسب، يسهل إخفاؤه وتحريكه، لتشكل الأسلحة «المضادة» من أنظمة صواريخ مضادة للطائرات، وصواريخ مضادة للدروع عموده الفقري. وتركّز القوات الخاصة على تنفيذ الإغارات، وتنظيم الكمائن المخصصة للدروع والأفراد، والقتال الليلي، وإقامة العقد الدفاعية. وتضم في تشكيلاتها فصائل متخصصة في صواريخ أرض ــ أرض ذات المدى القصير والمتوسط. ويبدو أن نجاح الأساليب القتالية ــ حرب العصابات ــ التي اعتمدتها المقاومة في حرب تموز، عزز هذا الخيار لدى الجيش السوري.
فاعتماد أساليب قتال غير تقليدية في وجه جيش تقليدي متطور، والتسلح بأسلحة خفيفة وفعالة، يربكان العدو ويبطل الكثير من قدراته التكنولوجية الحديثة. لذا يجب على الجيش النظامي غير القادر على امتلاك التكنولوجيا المتطورة (كحال الجيوش العربية)، إعادة النظر في استراتيجيته القتالية، وبالتالي التنازل عن أساليب القتال التقليدية، حيث السبق فيها للجيش الحديث، لينتقل الى ميدان آخر، كي يخوض حرباً «غير متماثلة». وفي السنوات الماضية، عانت القيادة السورية صعوبات جمة، للحفاظ على كفاءة قواتها العسكرية، والقدرة على تسليحها. ويبدو أنها باتت تركّز في عمليات البناء العسكري، على توسيع هيكل القوات الخاصة، وإعطائها الأفضلية على بقية القطاعات الأخرى. وينقل فيشمان عن مراجع أمنية اسرائيلية أن الجيش السوري «يطوّر الوحدات المضادة للدبابات وسلاح المشاة، وفي هذا الإطار تمت زيادة عديد وحدات الكوماندوس»(8).
4 ــ تعتمد سوريا على سلاح المدرعات، ولو بنسبة أقل. إذ يمتلك جيشها البري ما يزيد على خمسة آلاف دبابة وعربة قتالية من الأنواع المختلفة. ويفترض نشرها في المناطق المحتمل تقدم الإسرائيليين منها في حال المواجهة العسكرية، للاستفادة من قدراتها النارية، أكثر من حركتها. ولا بدّ من خندقتها وتمويهها كي يصعب على الطائرات الإسرائيلية كشفها. فالدبابة تصبح هدفاً سهلاً، متى انعدمت الحماية الجوية، مثلما حدث لسلاح المدرعات المصري في صحراء سيناء أثناء حرب حزيران 1967.
تعتمد الاستراتيجية العسكرية السورية مبدأ الدفاع، فإذا استثنينا الصواريخ البالستية ذات الطابع الهجومي، تصبح بقية الوسائط المتاحة للجيش السوري دفاعية بامتياز. وتوافر الأسلحة التي تزعم المصادر الإسرائيلية ــ ما دامت روسيا وسوريا لم تُقرّا أو تنفيا المعلومات الإسرائيلية ــ أن سوريا على وشك الحصول عليها، لا يغيّر من الطبيعة الدفاعية للاستراتيجية السورية. فالحرب الهجومية الحديثة تحتاج في البدء، الى سلاح جو فاعل يضاهي نظيره عند العدو. وهذا ما تفتقر إليه القوات السورية. ويقدّر الخبير أليكسي فيشمان: «أن يستكمل الجيش السوري ثورته الحالية في غضون ثلاث الى أربع سنوات»(9). وأشار جنرال إسرائيلي الى «أن سوريا تستثمر منذ سنوات في ميدان يمكن أن تتفوق فيه على إسرائيل مثل المدفعية المضادة للطيران والصواريخ والملاجئ المحصنة. وأثبتت حرب لبنان الصيف الماضي أنها أحسنت فعلاً بذلك»(10).
ويطرح السؤال، هل تقدم إسرائيل على عمل عسكري استباقي، لمنع سوريا من تطوير قدراتها الدفاعية؟ وهل تندرج الحملة الإعلامية المكثفة في الآونة الأخيرة، فضلاً عن «تهويلات» القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، حول تنامي قدرات الجيش السوري، في هذا السياق؟ وكان الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال أهرون زئيفي قد صرّح بأن سوريا وفي إطار تقديراتها للوضع تفكر في حرب تبادر إليها اسرائيل الصيف المقبل، لذا تركّز على تعزيز قدراتها الدفاعية.
وأخيراً، شهدت هضبة الجولان السورية مناورات عسكرية إسرائيلية هي الأضخم منذ سنوات، بحضور رئيس هيئة الأركان الجديد الجنرال غابي أشكنازي الذي تعهد بترميم هيبة الردع الإسرائيلية، بعدما تهشّمت في الحرب الإسرائيلية على لبنان.
وكان رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال عاموس يادلين قد صرّح أمام مجلس الوزراء ــ أثناء تلاوته التقرير السنوي لشعبته ــ «بأن احتمال شن سوريا حرباً لا يزال ضعيفاً، إلا أن رد فعل عسكري سوري على تحركات للقوات الإسرائيلية وارد بشدة»(11).
في مجمل الأحوال، فإن كل المؤشرات تدل على أن القيادة السورية قد استوعبت دروس حرب تموز. وتعمل على بناء «جيش مختلف» حسب تعبير المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت «أليكس فيشمان» «سنرى جيشاً برياً سورياً مختلفاً عما عرفناه اليوم»(12).
جيش مختلف، من حيث تركيب هيكل القوات، ونظام التسلّح، وأساليب القتال، والأهم جيش يعتمد استراتيجية دفاعية من نوع «مختلف».
المصادر:
(1) صحيفة الأخبار ــ تنامي قوة الجيش السوري يقلق إسرائيل ــ عدد 161 ــ 23/2/2007.
(2) محمد بدير ــ صحيفة الأخبار ــ قلق إسرائيلي من منظومة الصواريخ السورية ــ عدد 152 ــ 14/2/2007.
(3) محمد خواجه ــ الحرب السادسة ــ النصر الصعب ــ ص 76 عن صحيفة السياسة الكويتية ــ اتهامات تل أبيب لموسكو اعتراف واضح بعجز أسلحة الدولة العبرية ــ 16/9/2006.
(4) حلمي موسى ــ صحيفة السفير ــ إسرائيل: سوريا تبني جيشاً مختلفاً ــ 3/3/2007.
(5) محمد خواجه ــ الحرب السادسة ــ النصر الصعب ــ ص 180 عن عوفر شيلح كتاب: ولماذا يجب إحداث ثورة في الجيش الإسرائيلي؟ بيروت 2004 ص 79.
(6) القناة الإسرائيلية الثانية 1/3/2007.
(7) يحيى دبوق ــ صحيفة الأخبار ــ روسيا تلعب بالنار وتشجع سوريا على إشعالها ــ عن صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية 3/4/2007.
(8) حلمي موسى ــ صحيفة السفير ــ إسرائيل: سوريا تبني جيشاً مختلفاً ــ 3/3/2007.
(9) يحيى دبوق ــ صحيفة الأخبار ــ روسيا تلعب بالنار وتشجع سوريا على إشعالها ــ عن صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية 3/4/2007.
(10) صحيفة النهار اللبنانية ــ قلق إسرائيلي من نشر سوريا آلاف بطاريات الصواريخ على الحدود ــ 10/3/2007.
(11) صحيفة النهار اللبنانية ــ قلق إسرائيلي من نشر سوريا آلاف بطاريات الصواريخ على الحدود ــ 10/3/2007.
(12) حلمي موسى ــ صحيفة السفير ــ نقلاً عن صحيفة يديعوت أحرونوت 3/3/2007.
* باحث في الشؤون العسكرية