برزت العولمة بوصفها إطاراً يحاكي جملة من التحولات التي يشهدها العالم، والتي تنتج منها إعادة تشكيل الخريطة العالمية، بسائر أبعادها... من هنا، لم تكن ظاهرة العولمة سوى انعكاس لاختلال موازين القوى العالمية، في المجالات كافة، من دون أن يعني ذلك أن هذه الظاهرة مسار ناجز ونهائي، بل ثمة إمكان لمواجهتها، أو الحد من آثارها، في حال التماثل معها لناحية عناصر القوة التي تتزود بها وفي زمن العـولمة، بات العالم العربي ساحة مستباحة بوصفه مــيداناً تراجعياً أمــــــام تقدمها، ما يدفع إلى التــــساؤل: مــــا هي تداعيات العولمة على العـــالم العـربي؟
العرب والاقتصاد المعولم: أزمة الإندماج
عبد الحليم فضل الله *
لا تزال المقاربة الأيديولوجية متقدمة على ما عداها في تحليل علاقة العرب بالعولمة. ولأنها كذلك لم تكن يقظة بما يكفي لتمييز التغيرات الدقيقة المتراكمة، ورصد التحولات التي تحصل سواء في طبيعة هذه الظاهرة أو في اتجاهاتها.
فقبل عقد ونصف عقد تقريباً، عندما كانت محرّكات العولمة ناشطة جميعها وبقوة، كان الاقتصاد العالمي يميل أكثر فأكثر إلى حركتيْ تمركز: الأولى حول التكتلات الصناعية الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، والثانية حول الشركات المتعددة الجنسيات التي باتت أكثر سطوة وضخامة بعد ثورة الدمج والابتلاع الهائلة التي حدثت في التسعينيات. نجحت الرأسمالية العالمية آنذاك أيضاً في «خلق» كائنها العالمي الجديد أي منظمة التجارة العالمية، ليكون الركيزة الثالثة لنظام مؤسسي عابر للدول، فبات ممكناً الإشراف على تحرير حركة الرساميل والمبادلات الدولية، والتحكم من ثم باتجاه التجارة الدولية بعدما تولّت المنظمتان الأخريان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التحكم بالسياسات النقدية والمالية.
وبموازاة ذلك اعتمدت إدارة بيل كلينتون ممارسات أحادية حذرة، تجنّباً لأي تضارب بين المسار السياسي والعسكري وطموح الولايات المتحدة إلى امتصاص «خيرات العولمة» والفوز في التنافس مع المراكز العالمية الأخرى.
مع بداية الألفية الثالثة، خطت العولمة إلى طورها الجديد، لتواجه صعوبات عدة أبطأت تقدّمها السهل خلال التسعينيات، وقد كشفت التطورات السياسية والأمنية والعسكرية عن حجم المبالغات والأساطير التي حيكت حول مسائل عدة كتقلص دور الدولة، وتم تجاهل حقيقة مهمة وهي أنّ العولمة ليست تطوراً طبيعياً في مسار الرأسمالية العالمية بقدر ما هي نتيجة سياسات مقصودة ومدبرة وبرامج وطنية وتحالفات إقليمية ودولية، بحيث أن أي تطور يحصل في إحدى دول المركز ستكون له تداعيات حاسمة على مسار العولمة واندفاعها، وهذا ما حصل في في 11 أيلول 2001.ما هو موقع العالم العربي في هذا المسار المتعرّج للعولمة وللاقتصاد الدولي؟
خلال التسعينيات انقسمت الدول إلى ثلاث مجموعات: دول المركز المسيّرة لمنظومة العولمة والمسؤولة عن رسم توجهاتها الأساسيّة، والدول القادرة على الاندماج التي ازدادت أهميتها شيئاً فشيئاً في صنع القرار الاقتصادي الدولي، والبلدان غير المهيّأة للاندماج الواقعة على هامش الاقتصاد الدولي.
المجموعة الأخيرة عالقة في موقع لا تحسد عليه، فهي لم تتمكن من ركوب تيارات التجارة الدولية الجديدة فتستفيد من منافعها، لكنها في الوقت نفسه ملزمة بدفع الأثمان، بل إنها باتت الحقل الذي يتم فيه تبادل الضغوط والرسائل بين الفاعلين العالميين التقليديين والجدد.
لم تتمكن المنطقة العربية وهي مثال بارز على أزمة هذه المجموعة، من توظيف الأوضاع الجديدة في تحقيق أهدافها على صعد التنمية والتصنيع وتحقيق موقع أفضل في عالم اليوم، لكنها مضطرة إلى الالتزام بسياسات لن ترتدّ عليها بالنفع الكبير، فإن فوز الصين مثلاً بعضوية منظمة التجارة العالمية يمثّل اعترافاً بنموذج من السياسات مشبع بالاستقلال والتمرد على نمطية البيروقراطية الدولية، ويمكن اعتباره إشارة مشجعة إلى أن مقاومة الضغوط هي السبيل الأفضل للفوز بالمنافسات الدوليّة لا العكس. لكن ما الذي ستفعله دولة عربية نفطية وأخرى غير نفطية بعضوية ذلك النادي الدولي «الخطر»، فالأولى مستتبعة لأسواق النفط المعولمة أصلاً والثانية مرتبطة بإنتاج محلي لا يمكن مبادلته دولياً أو بقطاعات متأخرة لا يمكن تعريضها للمنافسة الخارجية، فيما تعتاش دول أخرى على المساعدات والتحويلات الخارجية التي لا يفيدها في شيء تحرير الأسواق.
إن الشرط الأول لتحقيق اندماج حميد في نظام العولمة هو تحقيق مستوى من التطور، تكون حصيلة الاندماج بنتيجته أعلى من التكلفة الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليه. بكلمة أخرى يبدأ طريق العولمة من اللحظة التي يتكلّل بالنجاح مسار التنمية فيها. إن رزمة سياسات تؤدي إلى النمو الطويل الأمد وتحقق التراكم في الرأسمالين المادي والبشري وتسمح ببناء صناعة حديثة وملائمة للطلب، تمثّل اليوم بوليصة تأمين على مخاطر السوق الدولية، التي تزداد حدّةً وانتشاراً.
وحيث إن الدول العربية فشلت في توفير شروط الاندماج الملائمة، فقد تراجعت الديناميات الإنتاجية في اقتصاداتها التي خسرت جاذبيتها وموقعها في الاقتصاد العالمي. فالصادرات العربية لم تعد تمثل مجتمعة أكثر من 5% من مجمل الصادرات العالمية بعدما كانت تزيد على 12.5% منها قبل عقدين تقريباً، وفيما قفزت قيم الاستثمار المباشر على الصعيد العالمي أكثر من عشرين ضعفاً من أوائل التسعينيات حتى اليوم، والتي تعد المقياس الأفضل لتقدم العولمة، تراجعت حصة الدول العربية من 1.4% في أوائل التسعينيات إلى أقل من 0.4% عام 2000، غير أنها أخذت بالارتفاع بعد ذلك ربطاً بارتفاع أسعار النفط، إلا أنّ حصة الصناعة من هذه التدفقات لم يتجاوز 9% والزراعة حوالى 1%.
مؤشر آخر إلى ضعف تكيّف الاقتصادات العربية مع العولمة، وهو تراجع الناتج القومي العربي الإجمالي من أكثر من 4.1% من مجموع الناتج العالمي في الستينيات إلى أقل من 2% عام 2000، ومع أن هذه النسبة قد تحسّنت مع ارتفاع أسعار النفط، فإن متوسط الدخل الفردي لم يتخطَّ ثلاثة آلاف دولار أميركي فيما يعيش ثلاثة أرباع السكان العرب تقريباً على دخل يراوح بين دولار واحد وخمسة دولارات يومياً. ليس هذا فحسب، فالاقتصاد العربي يفقد قدرته على استيعاب العمالة إذ يُتوقع أن ترتفع نسب البطالة بحسب منظمة العمل العربيّة خلال السنوات الثلاث المقبلة لتشمل ربع القوة العاملة العربيّة.
إن تفسير التراجع الذي أصاب مؤشرات التنمية العربية في ظلّ العولمة، يصبح ممكناً إذا أخذنا في الاعتبار أن مكانة دولة ما أو مجموعة ما داخل منظومة العولمة مرتبطة بامتلاكها التالي:
ــ القوة التفاوضية: ينبغي التنبّه إلى أن لعبة العولمة غير عادلة، فالقرارات داخل المؤسسات الدولية تتخذ على أساس سياسي، وفي إطار مزيج غريب من الإيديولوجيا والاقتصاد السيء، كما يقول ناقدون غربيون للتجربة. النجاح في خوض غمار هذه اللعبة يتطلب من الدول النامية العمل على فرض شروطها في المفاوضات العالمية وأن تتمتع في الوقت نفسه بالقدرة على الرفض. بخلاف ذلك، تعاني الدول العربية تراجعاً في القوة التفاوضية، فهي لم تقرر بعد الانضمام إلى نادي معارضي السياسات العالمية الحالية نتيجة وقوعها تحت تأثير الهيمنة الأميركية، وهي لا تستفيد من النفط في تحسين موقعها في المفاوضات المتعددة الأطراف. ويساهم في تراجع قوتها التفاوضية أيضاً ضعف الترابط الإقليمي بين الاقتصادات العربية، فالتجارة البينية لا تتجاوز 9% من مجموع تجارتها الخارجية، بينما تفوق التجارة الإقليمية البينية 50% في الدول المتقدمة، وما لا يقل عن 25% في الأسواق الناشئة. الجدير ذكره أن ظاهرة العولمة ترافقت مع انتشار لا مثيل له للتكتلات التي ارتفع عددها من 7 تكتلات في الثمانينيات إلى أكثر من 80 تكتلاً حالياً، يمر عبرها اليوم ثلث التجارة العالمية تقريباً. وتمثّل المنطقة العربية الحرة (الغافتا) تقدّماً في اتجاه التكامل الاقتصادي، لكن نجاح التجربة يتطلّب حل مشكلات عدة تهددها وعلى رأسها وجود تفاوتات غير مقبولة بين سياسات الدول الأعضاء فيها.
ــ القوة التنافسية: إن التكيف مع تحديات العولمة يتطلب وجود اقتصاد منافس، وهذا مرتبط إلى حد كبير بوجود هيكل متنوع وبالقدرة على الانتقال من الاقتصاد التقليدي المعتمد على المواد الأولية إلى اقتصاد المعرفة. وقد أورد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003، أن تجربة الدول العربية في نقل وتوطين التقانة/المعرفة لم تحقق النهضة التكنولوجية المرجوة، ومع أنها وظفت خلال الثمانينيات والتسعينيات أكثر من 2500 مليار$ في بناء المصانع والبنى التحتية فإن معدل الناتج المحلي للفرد قد انخفض «لأن ما تم نقله فعلاً هو وسائل الإنتاج لا التقانة».
ــ قوة السياسات: يجري التشكيك على نطاق واسع في قدرة الجغرافيا السياسية والحدود، على الصمود أو تأدية وظائف ذات معنى في مجال كوني مفتوح ومعولم، إلى حدٍّ يرى فيه البعض، «أن الدولة القومية تحولت إلى سلطات محلية للنظام الكوني، ويشبه دورها دورَ البلديات في الدول». وعلى أي حال فإن العالم العربي لم يستجمع بعد متطلبات الاندماج والانضمام إلى الاقتصاد الجديد، وإذا كان لا بد من نهضة فإنّ شروطها تبدأ ببناء المجال الحيوي المحلي العربي والإقليمي، وتمر بالبعد السياسي حيث تُظهر التجربة أن الاستبداد السياسي يتحول مع الوقت إلى استئثار اقتصادي والى مزج غير مشروع بين السلطة والثروة، ولا بد لها من أن تنتهي بإعادة النظر في سلّم القيم الذي يفسح في المجال أمام التقدم الشامل.
* كاتب لبناني
السلطة والمجتمع ودول المركز
وجيه قانصو*
العولمة نتيجة طبيعية للتطور البشري في مجال تكنولوجيا الاتصالات وتدفق المعلومات، وتعبير عن واقع عالمي جديد يتمثل في الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين بلدان العالم، ولَّدته التدفقات الدولية لرؤوس الأموال وزيادة حجم وتنوّع الصفقات والتعاقدات عابرة الحدود للمواد والمنتجات والخدمات. هذا ما جعل من العولمة مشروع تعقيل (عقلنة) العالم، تتوحد في داخله العلاقات المتشابكة والمتزايدة، ويصير معها العالم نطاقاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً واحداً يجمع بين أفراد البشرية كافة.
وليست العولمة، مجرد انعكاس آلي للتطور البشري، بل هي أيضاً برنامج ومطالب وسياسة تفرضها جميعاً دول المركز السياسي والاقتصادي، أي هي أشبه بإيديولوجية سياسية واقتصادية، تسعى إلى إطلاق يد الشركات العملاقة، عبر إزالة القيود الاقتصادية، لتستثمر وتسوِّق حيثما شاءت وكيفما شاءت، وإلى التقليل من تدخل الدول ورفع القيود التي تحدّ من حركة الأموال والبضائع والخدمات. وهي شروط ضرورية، بحسب أصحاب النزعة الليبرالية، لتوفير فرص العمل وتحقيق التنمية وخفض كلفة السلع وتوزيع عوامل الإنتاج. فحقبة هيمنة الدولة القومية أو الإقليمية، بحسب هؤلاء، قد ولَّت، ودخلنا حقبة انفصال التحكم على رقعة الأرض، لتقتصر مهمة السلطة السياسية على حماية النظام العالمي للتجارة الحرة،
رغم طموح القوى الاقتصادية الجامح، وانكشاف ضرورة الدولة مهما كانت تقلبات الواقع الدولي، بل ظهور ضرورتها أكثر من أي وقت مضى، إلا أن المؤكد هو تغيّر ملامح ومرتكزات السيطرة والتحكم التي تقوم عليها الدولة، حيث أصبحت أقل استقلالاً ذاتياً من قبل، وأقل سيطرة حصرية على العمليات الاقتصادية والاجتماعية الجارية على رقعتها الإقليمية. بل أصبحت الدولة أقل قدرة على صون التمايز القومي والتجانس الثقافي. حيث شكلت وسائل الاتصالات الجديدة وتكنولوجيا المعلومات قاعدة لمجتمع مدني عالمي، أضعفت معها سيطرة الدولة الحصرية على رقعتها الإقليمية، وأضعفت كل محاولات الحفاظ على التجانس الثقافي بقوة الدولة، وقوضت الدكتاتوريات الإيديولوجية المحتكرة للمعنى والتفسير. بل غدت الثقافات القومية التي تستهدف الهيمنة على الأفراد عبارة عن مشاريع لمقاومة العالم وإدارة الظهر له، وأصبحت النزعة القومية أو الدينية الأصولية المنطوية على نفسها سياسة الخاسرين، التي لن تحقق سوى مزيد من تهميش لمجتمعاتها.
هذا يعني حاجة الدول المعاصرة إلى البحث عن مرتكزات أخرى لولاء المواطن خارج نطاق التجانس الثقافي، إذ من المستحيل عملياً بعد الآن، الجمع بين الانخراط في السوق العالمي وبين تجاهل الثقافات العالمية التي ترافقها أو تتطلبها، أو الجمع بين وعي اختزالي للعالم وبين التعدد والتنوع الإنساني الخلاق.
مشكلة العرب مع العولمة، كما هي مشكلتهم مع الحداثة، أنهم لم يصنعوا (ولو جزئياً) سياقاتها ولم يشاركوا في وضع سياستها، بل هم متلقون سلبيون، يعملون في لحظة الاتصال الأولى على مقاومة تسرباتها، وإنشاء تحصينات عَقَدِيَّة (عقائدية) تبرر العزلة وتعوض الضعف وتضخم الهوية. ثم يجهدون لاحقاً، بعد ضغط العولمة (أو الحداثة) المتنامي عليهم، في التكيف معها والاستفادة من مكتسباتها، ولكن هذه المرة بطريقة انتقائية وتوليفية، تساعد على ترسيخ الواقع السياسي واستقراره، وتقلل من قدرتها على خلخلة توازن القوى المحلي، وتُبعد تأثيراتها عن نظام أو بنية العلاقات الاجتماعية المتجذرة. بحيث نشهد عولمة شكلية، كما نشهد حداثة شكلية، تبقى تحت التحكم والضبط الرسمي، تستفيد منها قوى السلطة في تثبيت مواقعها وترويج إيديولوجية تسلطها لضمان مشروعيتها، وفي مراقبة قوى الاحتجاج وملاحقتهم. ليصبح لدينا شكل عولمي كاذب لمضمون تقليدي يستمر في تحييد نفسه، بمسوّغات سلفية وتبريرية، عن أي استحقاق تاريخي يستدعي بشدة إنتاج مقومات أو منطق علاقة جديد وبلورة أُطُر فهم للذات وللعالم تتجاوز التشكيلات المعرفية المغلقة.
صحيح أن خيار التكيف مع العولمة الحالية (أو الحداثة) لم يكن حراً بالمطلق، بل هو استجابة قسرية لضغوط دول المركز وقوى الاقتصاد العابرة، تجعل من العولمة استراتيجية تحكم من قبل المحاور السياسية والاقتصادية في العالم ـــ وليس مجرد سياق عفوي للتطور البشري ـــ ترغم الدول الأطراف على إعادة هيكلية مشهدها الاقتصادي لتتسبب في تعطيل وتهميش الكثير من قوى الإنتاج المحلي، وعلى اعتماد سياسة تنمية لا تستفيد منها، وعلى فتح سوقها أمام منتجات وسلع رخيصة تزيد في نسبة الاستهلاك المحلي من دون تولد وفرة مقابلة، وعلى تماثل بناها السياسية لتكوينات دول المركز ودَوْزَنَة برامجها الداخلية لتتناسب مع استراتيجيات تحكمها بحركة إنتاج وتوزيع الموارد في العالم. هذا يعيدنا من جديد، إلى إشكالية تبعية دول الأطراف للمركز، وأزمة مستغِل ومستغَل، ومعضلة انقطاع السياقات التاريخية للواقع المحلي، والخلل الوظيفي الذي تولده محاكاة نموذج سياسي واقتصادي نشأ في تاريخ غريب عن المجتمع المحلي وينتمي إلى نصاب مجتمعي مختلف جوهرياً. بحيث وبدلاً من توليد العولمة لفعالية داخلية، فإنها تتسبب بتزعزعات بنيوية وتوترات محلية، لا تقتصر على نظام العلاقات السياسي والمجتمعي، بل تصل إلى سؤال الذات عن حقيقتها وهويتها.
رغم كل هذه الاختلالات، فإنها لا تبرر حصر التعامل مع العولمة بروحية الاحتجاج، بل لا بد من التعامل معها كأفق تاريخي يطل على المستقبل، وبذهنية الاكتشاف لمستوى وجود إنساني جديد، وبروحية الانخراط في جدلها (أي العولمة) وصراعاتها، لغرض تحسين شروطها وتعديل موازين القوى فيها والعمل على أنسنتها وتخليقها. ليتحول التعولم بذلك من حالة تبعية بين مركز وطرف، أو من فعل انسلاخ عن ذاكرة ذاتية ومخيال جمعي ونظام قداسة (أو قيم) خاص، إلى فضاء تفاعلي وإمكانات أو فلسفة وجود جديدة، وأطر متطورة وعادلة في إنتاج وتوزيع الموارد بين البشر..
قد لا يختلف إثنان في هذه الرغبة، إلا أن المعضلة تكمن دائماً في الحديث عن الإمكانات والشروط الذاتية، التي لا بد من استحوازها لتحقيق شرط الفاعلية أو التفاعلية في عولمة العالم، وللخروج من وضعية الاحتجاج والتبرير إلى وضعية المشروع الباحث عن توليد إمكانات وجود محدثة.
فبالقدر الذي تتم فيه مقاومة عولمة التبعية المبرمجة التي تشرطها قوى المركز الاقتصادي والصناعي، لا بد وبالقدر نفسه، من تلقي العولمة بكامل مقتضياتها الفكرية والسياسية والعلائقية بل والدينية أيضاً. ليست العولمة شيئاً غريباً وافداً، بل هي شرط إنساني انبثق بعد تراكم تفاعلات إنسانية كبرى، لا لتهدد أي وجود إنساني بل لتطرح رهانات حياة مختلفة، مليئة من جهة بالتحديات والألم والكدح والتوتر، ومليئة من جهة أخرى بالتعدد الخلّاق والشمولية الإنسانية والسعة الأخلاقية.
لذلك، لا معنى من تجزئة أو انتقاء عناصر من العولمة ونبذ أخرى، لأنها ليست شملة عناصر أو كمية معطيات، ولا قيمة لعولمة شكلية تعزل الذات عن مفاعيل الحدث العالمي وتنحصر ردات فعلها في الاندهاش بما يحصل في العالم. فالعولمة فضاء إنساني مختلف، لا بد أن يُتلقى بكامل مقتضياته القيمية والمعرفية والعلائقية بل والدينية أيضاً. ليست العولمة أداة أو آلة، بل هي مجال وجود علائقي وفهم إنساني جديد لمعنى الحياة. بهذا، وكما نحتاج للعمل على إعادة إنتاج العولمة على الشرط الإنساني الأوسع لا على مصالح الدول والشركات الخاصة، نحتاج أيضاً إلى إعادة إنتاج واقعنا على شرط العولمة، وإلى دخول الذات الفردية والجمعية في تجربة التعولم الصعبة، مع كل ما تتطلبه من قلق وخوف وخسارة، وتفكك للكثير من أطر التضامن التقليدية، وزعزعة لقواعد الولاء المألوفة.
من هنا، فإن عولمة السلطة أو الدولة لا تكون بتجاوزها أو إلغائها، فهذا وهم روّجته قوى الاقتصاد الكبرى لتبرر لامحدودية سيطرتها على الموارد ونظام الإنتاج والتوزيع، بل تكون بإعادة ابتكار شروط سيادية جديدة وقواعد ولاء وتضامن مرنة، تضبط التداخل بين الخاص والعام، بين الخصوصية والكونية، وتكون أيضاً، بنسج مبادئ قيمية، تدفع الفرد إلى الاندماج بالآخرين في العالم، ويكون في الوقت نفسه قادراً على تعريف نفسه.
آن أوانُ المصالحة مع العالم، الذي لا يقتصر على عقد العهود والمواثيق الدولية، بل هي عملية تصل عميقاً إلى موقفي من الآخر وعلاقتي به. هي سلوك، يستدعي الاعتراف بمكونات العالم وتنوعاته واعتبارها أصيلة وحقيقية بنفس حقيقة الإنسان والوجود. إنها اعتراف بآخر في العالم، لا كحقيقة إنسانية وحضارية وتاريخية وسياسية فحسب، بل كحقيقة دينية وإيمانية أيضاً.
العولمة ورشة ذات قبل أن تكون مشروع سوق.
* استاذ في الجامعة اللبنانيةdiv align="center">العولمة والدين: ضرورة المواجهة الخلاصيّة مشير باسيل عون *
ثبت اليوم أنّ العولمة مرتبطةٌ بالاقتصاد، وأنّ السياسة تخضع للاقتصاد، وأنّ الثقافة تخضع للسياسة، وأنّ المجتمع يخضع للثقافة، وأنّ الدين يتأثّر بثقافة المجتمع لأنّه يجري في عروق الناس. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الارتباطات فرضتها قرائنُ الأحوال السائدة في الأزمنة المعاصرة حيث تشهد المجتمعات البشريّة سعياً محموماً إلى بناء الجمهوريّة الاقتصاديّة الكونيّة. وإذا أتت الارتباطات على هذا الوجه، كان لا بدّ للدين من مواجهة العولمة. فإمّا أن يخضع لسلطانها، وإمّا أن يُخضعها لسلطانه، وإمّا أن يتنافسا كلاهما تنافسَ التزاحم الأقصى.
ولكي يدرك المرء معنى هذا التواجه، لا بدّ من التذكير ببعض التعريفات الضروريّة. فالعولمة أضحت اليوم إطاراً تنظيميّاً للاقتصاد وللسياسة وللاجتماع وللثقافة. ولكنّها تطمح إلى أن تنقلب هي الناظم الأوّل لمضامين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة. وكذلك الدين، فهو يتأرجح بين طرفين متقابلين. فإمّا أن يمثّل في حياة الناس ذلك التوق الروحيّ إلى المطلق، فتنحصر رسالتُه في إغناء المجتمع الإنسانيّ بقيَم السماء، ومنها الأصل الإلهيّ لمبادرة الخلق والمصير المشترك في حضرة الملكوت السماويّ، وإنارة الوجود التاريخيّ بمثُل المحبّة والرحمة والغفران والأخوّة والمساواة والتضامن والعدل والسلام. وإمّا أن يضع هذا التوق الروحيّ وهذه القيم السماويّة في عمارة لاهوتيّة ثابتة، ومؤسّسة دينيّة ناظمة، وشريعة مسلكيّة حاكمة، فيصبح الفكرُ منسلكاً في إطار تنظيميّ ضابط مقترن بالثقافة الأقدر التي نجحت في حمل تصوّرات الدين ومعانيه ومضامينه.
وعلى حسب تعيين هويّة العولمة وهويّة الدين ترتسم حدودُ المصاحبة والمواجهة. فإذا كانت العولمة إطاراً تنظيميّاً بحتاً للتواصل الإعلاميّ والانفتاح الفكريّ والتضامن الأمميّ، وكان الدين رعايةً حرّةً للتوق الإلهيّ المزروع في قلب الإنسان، وارتقاءً للروح في اختبارات مداناة السرّ الإلهيّ، وتهذيباًً للأخلاق في تطلّب أرفع القيَم الإنسانيّة والروحيّة، تَصاحب في مسالمةٍ طيّبة الإطارُ التنظيميّ الذي تحمله العولمة هو والفكر الروحيّ السامي الذي تبثّه الأديان في تضاعيف الوجود الإنسانيّ. وأمّا إذا انقلبت العولمةُ تصوّراً شاملاً لهويّة الإنسان ولوجود الإنسان ولسعادة الإنسان، فإنّ المواجهة لا بدّ لها من أن تنشط بين الدين والعولمة. ذلك أنّ الدين لا يقبل أن تزاحمه العولمةُ في تعيين هويّة الإنسان، وهي عولمةٌ ما انفكّت تثبت أنّها خاضعةٌ لضروب شتّى من انحرافات الفهم الإنسانيّ. فالهويّة الإنسانيّة التي تتطلّبها العولمة هي غير الهويّة الإنسانيّة التي يتصوّرها الدين.
وفي هذه الحالة ينبغي للأديان أن تواجه العولمة الإيديولوجيّة، وهي العولمة التي تروم أن تفرض على الإنسان تصوّراً لهويّته يناسب مطامحها الاقتصاديّة ويراعي مقتضيات نشاطها الإنتاجيّ والتسويقيّ والتسلّطيّ. فالعولمة توشك أن تحصر الكيان الإنسانيّ في موضع الذات المنتجة أو الذات المستهلكة، بينما هويّة الإنسان تتجاوز حدود الإنتاج والاستهلاك. والعولمة توشك أن تُبهم مسؤوليّة الناس في بؤس الناس. فالتكتّلات الاقتصاديّة الكبرى تمتهن كرامة الإنسان وتقيّده في حرّيّته وتظلمه في سعيه إلى العدالة الاجتماعيّة. غير أنّ الإنسان الخاضع لمنطق العولمة عاد لا يستطيع أن ينسب هذه الشرور كلّها إلى الإنسان، إذ إنّ العولمة تحجب الإنسانَ وراء منطق الترجيحات المنفعيّة الكونيّة العظمى، وتُلغي له مقامَه الصريح في القرار الاقتصاديّ والاضطلاع بمسؤوليّة هذا القرار. زد على ذلك أنّ العولمة تُفقد الناس قدرة البلوغ إلى حقل الوظائف الإنتاجيّة الوضيعة، فتحشر الجميع في شركات الإنتاج الكبرى حيث ينعدم التواصل الإنسانيّ وتتقلّص مساحات المبادرة العمّاليّة الفرديّة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ العولمة تقضي على مبدأ الديموقراطيّة، إذ تربط القرار الفرديّ المحلّي الحرّ بدوائر الإنتاج التي تتجاوز المجتمعات والأوطان، ما يجعل المؤسّسات الديموقراطيّة المحلّيّة تخضع خضوعَ الإذلال لسطوة هذه الدوائر. وإذا ما انضاف إلى هذا كلّه عبثُ العولمة بمكانز الأرض واستفحال العدوان على البيئة، اتّضح للجميع أنّ العولمة أمست تستبدّ استبداداً فظيعاً بمصائر الناس في إطلالة الألف الثالث.
ولمّا كانت الأديان، في عمق تطلّبها الروحيّ، تسعى إلى إدراك الإنسان في قدرته الكيانيّة على تجاوز مصنوعاته، فإنّ رؤية التاريخ تختلف اختلافاً جليّاً بين أنظومة القيَم الدينيّة وأنظومة المبادئ والأحكام والمقاييس التي تعتمدها إيديولوجيا العولمة. وليس يخفى على أحد أنّ وصف العولمة بالإيديولوجيا مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بسعي دوائر العولمة المنظورة وغير المنظورة إلى التسلّط على المسعى المعرفيّ الذي يحمله الإنسان في كيانه. وكلّ تسلّط على المعرفة الإنسانيّة، حتّى لو أتانا من الدين عينه، هو ضربٌ مقيتٌ من ضروب الإيديولوجيا. فالتاريخ الإنسانيّ تنظر إليه الأديان من منظار دينونة المحبّة والرحمة، وهي دينونة الرفق التي ستحكم المسعى الإنسانيّ الأشمل في نهاية التاريخ. وحين تتحدّث الأديان عن نهاية التاريخ، تُظهر بوضوح أنّ أفعال الناس لا يمكن أن تُقاس بمقياس الأنظومات الدنيويّة الإنتاجيّة الناظمة للنشاط البشريّ في نطاق الوجود الحسّيّ المنظور. فالتاريخ في عرف الأديان أرحب من التاريخ الذي تتحدّث عنه العولمة.
ولذلك لا بدّ من أن ينشأ بين قيَم الأديان وأحكام العولمة شيء من التصارع الضروريّ. فالناس، ولئن كانوا يخضعون اليوم لاجتياحات العولمة التقنيّة، لا يُطيقون أن يتقلّص كيانهم وينكمش في حدود الإنتاج والاستهلاك والابتداع التقنيّ القاهر الذي بات يلامس التلاعب بالبنيان البيولوجيّ الذي انعقد عليه الكيان الإنسانيّ. ويجدر في هذا السياق التذكير بالطفرات النوعيّة التي اختبرتها أنظومة القيَم في المجتمعات الإنسانيّة الوسيطيّة والحديثة والمعاصرة.
وبما أنّ هذه القيَم الحديثة أعدّت إعداداً مباشراً زمنَ العولمة الاقتصاديّة، فإنّ ارتباط العولمة بهذه القيَم ما زال ارتباطاً وثيقًا بفعل ما نشأ بين أنظومة الفكر الغربيّ الحديث وأنظومة العولمة من رباط سببيّ جعل العولمة هي الخاتمة المنطقيّة لاندفاعات العقلانيّة الحديثة. غير أنّ آثار العولمة في تجريد الإنسان من حرّيّته الفاعلة، دفع بأهل الفكر في الزمن الراهن، وهو الزمن الذي بات يُسمَّى بزمن ما بعد الحداثة، دفع بهم إلى المناداة بضمّة أخرى من القيَم الإنسانيّة العليا عاينوا فيها استجابةً أوفرَ احتراماً لسرّ الكينونة الإنسانيّة. ومن هذه القيَم تعزيز الوجدان الإنسانيّ الفرديّ بما يختزنه من طاقات التصوّر والتخيّل والابتكار، والوثوق بالحسّ الذاتيّ في تلمّس الأبعاد المحجوبة من الوجود الإنسانيّ، والارتياح إلى دفء الانفعال الباطنيّ المنبثق من حركة الذات الحميميّة، وإعلاء شأن الرقّة الإنسانيّة، وتعظيم رفعة الكرامة الإنسانيّة في عمق جدارتها الذاتيّة.
ولا ريب أنّ مثل هذه القيَم التي ينادي بها فكرُ المجتمعات الغربيّة المناهض لسطوة العولمة إنّما تلاقي روح الأديان في جوهر صفائها الروحيّ. ولذلك ينبغي للأديان أن تؤازر هذه القوى الغربيّة الحيّة التي تجاهد جهاد الأبطال في التصدّي لمقاربات العولمة الإيديولوجيّة.
بيد أنّ التحرّر من سطوة المؤسّسة الدينيّة، ولئن لم يُصب بإشعاعاته الخلاصيّة مجتمعات الشرق العربيّ، أوشك أن يُسقط المجتمعات الغربيّة في محنة الإعراض عن المؤسّسة وعن القيَم في الوقت عينه، فيما الثورات الغربيّة كانت تسعى إلى الانعتاق من سطوة المؤسّسة. أمّا وقد انعتقت المجتمعات الغربيّة من سلطان المؤسّسة الدينيّة، فإنّ مكتسبات الحداثة ما أسعدت الإنسان إسعاداً كاملاً بل أعانته على بناء إنسانيّته في أرحب مقتضياتها الكيانيّة. والحقّ أنّ الحداثة الغربيّة، وقد أُغلِق عليها في نطاق العولمة، جلبت العلمَ ولم تجلب الحكمةَ، واستثارت التِقانةَ ولم تستثر الطاقةَ الروحيّة، وابتكرت الصناعة ولم تبتكر سبُل الحفاظ على البيئة، وأجمعت على الديموقراطيّة ولم تُجمِع على الأخلاق في أغلب ممارساتها. وفي موازاة هذا التوتّر الحضاريّ الشديد، كان الشرق العربيّ الدينيّ منذ زمن الحداثة إلى اليوم يغرق في سبات عميق، لا يجرؤ على الثورة المفكِّكة للتراث، ولا على الصون الإبداعيّ للذات الدينيّة، ولا على التوفيق الفذّ بين متطلّبات الأصالة ومقتضيات التحديث.
لا ريب أنّ الأديان، ولا سيّما التوحيديّة الإبراهيميّة منها، تسعى إلى نمط من العولمة تذيع به تصوّراتها وأفكارها ومبادئها وأحكامها. وفيما تكتفي المسيحيّة بعولمة القلب والذهن والفكر والروح وحركة التاريخ المنحجبة، لا يكتفي الإسلام بهذه العولمة الروحيّة، بل يصبو أيضاً إلى عولمة البنى والمؤسّسات والهيئات والشرائع والتدابير. ولذلك كان الصراع على أشدّه بين الإسلام والعولمة الغربيّة التي تحمل فيها تصوّراً للإنسان يخالف تصوّر الإنسان في الإسلام وإطاراً تنظيميّاً للمجتمع يخالف الإطار الذي تعتمده الشريعة القرآنيّة. وأمّا الصراع بين المسيحيّة والعولمة، فهو صراعٌ بين التصوّر الفكريّ المسيحيّ والتصوّر الفكريّ الذي تحمله العولمة في مشروعها. أمّا الإطار التنظيميّ الذي تتوسّل به العولمة، فلا يزعج المسيحيّة في شيء لأنّ المسيحيّة ارتدادٌ للروح وللفكر وانغلالٌ رضيّ خفِر فاعل في تضاعيف البنى والمؤسّسات والتنظيمات والتدابير، على تنوّع أشكالها واختلاف تجلّياتها.
* أستاذ الفلسفة والحوار في جامعة الروح القدس
الثقافة العربية بين الأصالة والاستتباع
ناصر السهلي *
جاء تساؤل غرامشي عن المثقفين على نحو مبسط: «هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية مستقلة بذاتها، أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين؟».
الإجابة أيضاً أبسط من تعقيدات مثقفينا، فلا يمكننا القول بأن المثقفين يشكلون طبقة اجتماعية مستقلة بذاتها، «بل هم فئات مرتبطة بدرجات مختلفة بإحدى الطبقات الأساسية». في عالمنا العربي، ثمة مثقفون عضويون مرتبطون أساساً بالطبقة ذات السلطة والنفوذ ليستمدوا وجودهم من تلك الطبقة وهذه النوعية من المثقفين الذين يرددون على مسامعنا الكثير من الكلام المغلف بلغة معقدة التراكيب باستعارات كبيرة لمفردات يُحضر لها الكثير من العفاريت لاستخراجها من قمقمها وهو يخاطب الجماهير، بحيث يفتح المواطن فمه مندهشاً للغة عربية لا يفهم ما يلقى عليه منها.. وإذا أخذنا بعنوان الأمية التي تفوق 70 مليوناً على امتداد وطننا العربي، فلنا أن نتخيل الحدود التي يصلها «خطاب المثقف» المترفع، والعاجز في أحيان كثيرة، عن ملامسة ما يعانيه الإنسان العربي في غربة وتغريب زمن «العولمة» له !
إنه خطاب يحمل في طياته الكثير من نقد تنظيري تطغى عليه لغة غير «مفلترة»، إن صح التعبير، فتصل العامل والفلاح بثياب غير محلية كأنها «شيفرة» تحتاج إلى من يحل رموزها لتكون متكيفة مع طموحات وتطلعات هذا الإنسان الذي يُسأل في لحظات تاريخية كثيرة عن دوره، بينما يقف هو غير قادر على تسلم جواب عن دور نخبته التي هي مشغولة بالوصول إلى «العالمية» (على طريقة أهل الفن السابع والعاشر) بكتابات بالكاد يُطبع منها ألف نسخة... ويُحمل هذا الإنسان مسؤولية «أنه غير قارئ» وهو غير قادر أولاً على الاكتفاء الذاتي برغيف الخبز...
السؤال البسيط عن دور «المثقفين»، بل عن دور الجماهير العربية لحظة تردى الواقع العربي إلى مستويات لم يعد من الممكن السكوت عنها. البعض تساءل، وهو محق، عن دور النقابات، بل عن دور طلبة الجامعات ودور المثقفين والنخب عموماً... هنا أستذكر التصريح الشهير لشيخ الأزهر حين اتهم الأمة بأنها «أمة رعاع»، إذ كيف يمكن هذه الأمة التي توصف بأمة رعاع أن تخرج من مأزق سلبيتها في الوقت الذي لم تجرؤ فيه مؤسسة ولا حتى تركيبة واحدة من هذا المجتمع العربي للدعوة ولو إلى إضراب واحد في قطاع ما من قطاعات المجتمع.
قال إدوارد سعيد في كتابه «صور المثقف» (ص104) كلمات تستحق القراءة لنفهم حقاً أي نوع من المثقف الذي تمقته الجماهير، فهاكم الاقتباس التالي: «ولا شيء في نظري يستحق التوبيخ أكثر من تلك الطباع الذهنية للمثقف، التي تغري بتجنب المخاطر، أي الابتعاد عن موقف صعب ومبدئي تدرك أنه الصحيح، لكنك تقرر ألا تتخذه. فأنت لا تريد الظهور في مظهر المنغمس جداً في السياسة، وتخشى من أن تبدو مولعاً بالجدل وتريد الاحتفاظ بسمعة حسنة كإنسان متزن، وموضوعي، ومعتدل، وتأمل أن تدعى مرة أخرى، وأن تُستشار، وأن تكون عضواً في مجلس إدارة أو لجنة لها مقامها، وبالتالي أن تظل في نطاق الاتجاه السائد الذي يُعول عليه وتأمل أن تحصل يوماً على شهادة فخرية أو غنيمة كبرى، لا بل على منصب سفير».
دعوني أكن متحرراً قليلاً من مسألة التعريف المجرد للمثقف، لأكون أكثر حرية في قول ما أريد أن أقوله. أنا لا أجد حرجاً في القول بأن تلك الذهنية التي حددها الراحل إدوارد سعيد هي حقاً ذهنية المثقف السلطوي. المثقف الذي أقول عنه دائماً «المدرك للواقع، لكنه السابح بالقرب من الشاطئ» مخافة الغرق. أو الانغماس في الدور الحقيقي للمثقف الذي تحرر من عقدة ارتباطه بالسياسي!
هناك نوعية من المثقفين الذين يحملون حقاً ثقافة (أو قل نمطاً حياتياً) تجعلهم أسرى نرجسية مقيتة، فكم من الذين أسماؤهم كبيرة قد خيبوا ظن الجماهير التي اعتقدت بأنهم ينطقون بما تفكر به تلك الجماهير... هم كثيرون ولا شك، فمن مشايخ السلاطين إلى مثقفي السلطة تجد كماً مكدساً من الذكور والإناث الذين يحومون حول وظيفة تغدق عليهم بعضاً من بريق الشهرة والإطلالة علينا من التلفاز ليسبحوا عند الشواطئ مخافة غضب السلطة التي وقعت معهم عقداً غير مكتوب من حدود الحرية على حدود السلطة... إنهم بالضبط ذلك النوع من «المثقف العصري»، وقد عرفهم إدوارد سعيد بأنهم خليط من الأكاديميين والصحفيين والمحترفين المنتقلين من الاستقلالية إلى التحالف المخزي مع منظمات ومؤسسات شديدة القوة والبأس. لنتفحص مثلاً الماكينة الإعلامية للنظام السياسي العربي، التي بدورها أضحت جزءاً من إمبراطورية الإعلام الرأسمالي الغربي والأمريكي تحديداً: هل ننكر أن رئيس التحرير وكل الطاقم الذي يتبعه أناس يملكون من «الثقافة» (غير المُعرفة هنا أيضاً) ما يفوق ثقافة ومعرفة الإنسان العادي في شوارع الوطن العربي بشأن ما يحوكه الاستعمار الجديد لعالمنا العربي؟
لكننا لو أجرينا مقارنة سريعة بين ذهنية هذا النوع من المثقف وذهنية المواطن العربي في تحليل وطرح موقف وحل لمشاكل كثيرة تواجه الأمة لوجدنا أن حرية العقل عند المواطن (رغم القمع والرقابة على التفكير) تفوق كثيراً حرية الباحث عن «غنيمة» أو «منصب سفير» أو «مستشار». وتلك الحرية تُجابه أحياناً كثيرة بتهم يُطلقها «مثقفو السلطة» (أو الباحثون عن رضاها)، منها مثلاً: «التهور واللاعقلانية والعاطفية». هذا إذا لم نأخذ بالكثير الكثير من التهم الجاهزة حتى عند «مثقفي العولمة» الذين ليسوا بالضرورة يتبعون نظاماً معيناً، بل يبحثون عمن يتبناهم أو يُشبع رغبات «الأنا» الكبيرة والمتورمة والبرستيج الكاذب. فمن الأمثلة الدالة على ذلك نوعية معينة من ضيوف «الاتجاه المعاكس» عند فيصل القاسم وقبلهم «جماعة كوبنهاغن» و المستحضرون على شاشة «المستقلة(...)» هذا النزف الفكري والتقيؤ من الكتابات التي ترميها بوجهنا عديد المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت حيث باتت تسود «ثقافة خلط اللبن بالتبن».
تسود مجتمعاتنا ثقافة «الصراخ والزعيق»، حيث يصرخ الواحد منهم أكثر مما يفعل رجال الاستخبارات العربية بوجه المشاهد والقارئ إن اختلف معهم. بل حتى أن بعض تلك النوعيات من «المثقفين» لا يؤمنون باستطلاعات الرأي ولا باتصالات أو تعليقات المشاهد أو الكاتب الذي يختلف معهم.
وبالعودة إلى سؤال غرامشي، فمن البديهي هنا أن نسأل المثقف عن رؤيته للطبقة الأساسية: هل هي طبقة «النبلاء» التي تتقاتل على نفوذها في بيان سياسي فارغ بعد أي اجتماع، ولو على صعيد الناحية، فما بالك إن كان اللقاء لقاء «قمة عربية»؟ أم أنها تلك الجماهير الساحقة التي باتت تنتج معرفة تفوق المعرفة الخاوية من الموقف، التي يقدمها محترفو ثقافة التبرير لطبقة التسلط العربي؟
ليس بوسعي إلا القول بأنه ما دام «المثقف» العربي عاجزاً عن توظيف معرفته وإبداعاته لإحداث التحول المطلوب، أو على الأقل التوقف عن لعب دور المهرج القابل لأن يكون ذيلاً لأية سلطة كانت والتوقف عن تلقي كيس من دراهم السلاطين كرشوة مفضوحة للتعمية على حقيقة الواقع المر الذي يعيشه الإنسان العربي، فإن هذا «المثقف» سيبقى تابعاً لثقافة جامدة ومُجمدةٍ للإبداع ولإمكان أن يكون في الطليعة من هذه الجماهير التي لم تعد تحتمل كل هذا الكم من النفاق والكذب عليها لا من الاحتلال ولا من أعوانه ولا من الصامتين عنه!
إن الدوران في فلك رمي أسباب العجز على ظلم وجور السلطان لا يعفي أبداً المثقف من دوره المتقاعس والمكتفي في المشاركة في مؤتمرات وندوات يحضرها عشرة أو عشرون من الجنس الناعم وبعض ممثلي السفارات الغربية هذه الجماهير العربية حين تسأل عن دور نخبها فهي لأنها تنشد التغيير الذي يُنظمها ويخرجها إلى حيز الحرية التي تجاوزتنا إلى السنغال وألبانيا... فشعوبنا، من دون أن أجزم، تبدو قنوعة جداً وهي لا تريد أن تقفز دفعة واحدة إلى ديموقراطية الهند أو إلى رفاهية السويد... وإن كنت أنا شخصياً لست قنوعاً وراضياً!
* كاتب عربي مقيم في الدانمارك