ناصيف قزّي *
كُنتُ عائداً من رِحلةٍ الى فرنسا مع صديقي رمزي، حيث التقينا، وبدعوةٍ من التجمّعِ لأجلِ لبنان في بلادِ الفرنسيس، نُخَباً من اللبنانيّين والفرنسيّين، في كلٍّ من باريس Paris، مدينةِ الأنوار، وليون Lyon، مدينةِ التاريخ وهِبَةِ الرون Le Rhône والسون La Saône، وسان ــ إتيان Saint-Etienne... المدينةِ الوادعة التي تبَرَّكنا في حديقتِها الأوروبيَّة من أرزةٍ علَتْ على كلِّ النُصوب، كان قد حَمَلَها جوزف ورفاقه من لبنان، ليزرَعَها الجنرال عون عند مرورِه في تلك الناحية مبشِّراً بخلاصِ لبنان في العاشرِ من أيلول عامَ ألفين... أرزة أمسَتْ كمثيلاتٍ لها في مغاربِ الدنيا ومشارِقِها، وساماً أزلياً من شعبِ لبنان على صدرِ أُمَمِ الأرضِ قاطبةً... وساماً من شعبٍ كانَ منذ أن كانَ التاريخ... وساماً تتهافَتُ عندَه كلُّ أوسمةِ القصورِ وأربابِ القصور.
كُنت عائداً من رحلتي تلك، عندما تصفَّحْتُ كتابَ André Comte-Sponville، روحُ الإلحاد L’esprit de l’athéisme، والذي يروي فيه الفيلسوف الفرنسي أنَّه، وبعدما ترهَّلَ إيمانُهُ وسَقَطْ في الثامنة عشرة من عمرِهِ، شعرَ بارتياحٍ كبير... الارتياح نفسه الذي قد يُدرِكُهُ، كذلك، العائدُ الى اللهِ بعد شكّ. لكنَّه، وبعدما شرحَ الحالةَ التي يعيش، والتي لا تتناقضُ، برأيه، مع كونِهِ ينتمي الى الثقافةِ المسيحيَّة، عاد ليؤكِّدَ ضرورة «ألّا نتخلّى عن الروحانيَّةِ للأصوليّين من كلِّ حدبٍ وصوب، ولا أن نُفلِتَ العَلمانيَّةَ للمتهوّرينَ من أعداءِ الدين». ولم يُخفِ Comte-Sponville أيضاً رغبتَهُ في «أن تقينا الروحانيَّة، ولو من دون عقيدةٍ إيمانيَّةٍ أو كنيسةٍ، شَرَّ الأصوليَّة والعدميَّة في آن»... ليرى أبعدَ مما رآه André Malraux، وجوبَ أن «يكونَ القرنُ الواحدُ والعشرون روحانياً وعلمانياً أو لا يكون». وبعد، أتكون الشهادةُ للروحانيَّةِ تلك... شهادةً ضدَّ الكُفر المباح؟
هكذا، وبقَدْرِ ما سُرِرتُ بشبابِ لبنانَ، قُل أرزه، على ضفاف نهرِ السين La Seine وفي منطقة الرون Le Rhône، وبقَدْرِ ما لامَسَتْ منّي روحانيَّةُ Comte-Sponville الملحد، العقلَ والوجدان، حزِنتُ عند سماعِ أخبارِ لبنان، لأدخُلَ من جديدٍ في ليلِ العدميَّةِ الذي لا ينتَهي. وما إن وصَلْتُ الى بيروت، حتى عادَتْ تلك الأخبارُ تَخدِشُ مسامعي: خطاب سياسيّ مستعاد لبعض أفرقاءِ ما يسمى «قوى الرابع عشر من آذار»، من عُرسِ الأوسمةِ في قصرِ الإليزيه Le Palais de L’Elysée، الى طاولةِ نَسفِ الحوارِ في قريطم، مروراً بمنبر الصرح والشرف المستباح وبالسرايا الكبيرة وحكومة الصحون الطائرة والقرارات التي لا يدري إلاّ الله مصادرَها وأغراضَها، خطابٌ أقلُّ ما يقال فيه أنه أدرَكَ حدّ الكفرِ بكلِّ الأصولِ والأعرافِ والمعايير... ناهيك بتفسير الدستور وجهابذة الزمن الأخير واستنباط الشروحات المفصّلة لانتخابات الرئاسة الأولى على قياس بعض القامات وهوسها والأطماع... الى ما يتفوّه به آخرون من فذلكات وتفاهات... وكما في كل مرة، فكلٌّ يغنّي على ليلاه رغبة في إعاة بناء أمجاد وأوهام. إنهُ عودٌ على بدء... كأني بهم يريدون إيصال الأمور الى نقطة اللارجوع.
فما بالُ أهلِ السلطة في غيِّهم ممعنين...!؟ أتُراهم في صراعٍ مع البقاء... أم بريق «الشرقِ الأوسطِ الجديد» أعمى بصائرَهم فأفلتَتْ شهواتُ بعضِهِم من عقالِها، لترى واحداً يُحَضِّرُ المِشنَقَةَ للمعارضين، وآخَرَ يخشى حبلَ المعتصمين، وثالثاً يُعيدُ القراءةَ نفسَها في كتابِ الآخرين؟
أيَعْقُلُ ألّا يسأل واحدُهُم أو يتساءَلَ عن حقيقةِ ما يجري من حولِنا في هذه الأيام، في ضوء التهديد الدولي لإيران، وما يمكن أن يترتَّب على ذلك من أخطارٍ ومعادلات؟ أم الاحتقان مطلوبٌ أن يزداد في لبنان ليصبح كلُّ شيءٍ مباحاً... والناس، في ظنِّ بعضهم، عمّا يتَهَدَّدُهُم نيام؟
حبذا لو يدرك أهل السلطة أن الشعب واع وأنه سئم تصريحاتهم وجدالاتهم حول المحكمة والشروط والحكومة والحوار المسدود... وكل ذلك بفضل ثقافة التوعية على الحقيقة التي أرساها، وبشكل أساسي، الجنرال عون وكوكبة من السياسيين الصادقين في بلد اعتاد بعض النافذين وأتباعهم قلب الحقائق والمعادلات.
في أي حال، قد يكون للمعارضة الوطنيَّة أخطاءٌ وزَلاّتٌ وسوءُ تقديرٍ، غير أن ذلك لا يُفقِدُها فضيلتها الكبرى والتي تكمن في إصرارِها على الشراكةِ في الحكمِ لا التفرُّدِ فيه، وعلى تكريسِ الوحدة الوطنيَّة لا الفُرقَةِ والإلغاء... وذلك بعيداً من كلِّ أشكالِ التقاتلِ الأهليّ ومنطقِ الاستقواءِ بالخارجِ على أهل البيت. إلا أن على المعارضة، بعد اليوم، أن توقف حواراً بلا جدوى، فقد باتت العودة الى الشعب أمراً لا مفرَّ منه... وصناديق الاقتراع هي السبيل الوحيد للخروج من العثار الذي نتخبّطُ فيه. ألم تسعَ المعارضة من دون كلل، حتى الآن، وفي مقدمها الجنرال عون، وعلى الرغم من كل العراقيل، الى تصحيح المسار، وتقريب الناس بعضهم الى بعض، خارج إطار الكيديَّة والمواقف المسبقة... في وقت ظلَّ فيه بعض رموز السياسة اللبنانيَّة على ما هو عليه... من زمن البنادق والمتاريس والاحتجاب، الى زمن البيارق والخطب والأضواء؟
ألم يدرك الجنرال عون نفسه باكراً حقيقة ما يجري في لبنان، فتصدى لأكبر مؤامرة عليه، ولا يزال؟ فكان في ذلك، الى كونه مدرسة في الأخلاق، رأس حربة في حالة الممانعة التي تشكَّلت دفاعاً عن وحدة لبنان وعزته وكرامة شعبه؟
ألم يكن الجنرال معلّماً أيقظ الناس من سبات أوقعهم فيه تجار السياسة... ففضح كل الشائعات والأكاذيب؟
وبعد، أيُعقل أن تُهمَّش المعارضة ليرسم السياسة في لبنان وارثوها... كمن يرث أشياء وممتلكات، أو الخارجون من جيب فلان أو محفظة علّان... أناس اختارهم البيك لا لأنهم خيرة القوم بل لأنهم ضعاف النفوس يلبسون أية أدوار قد تُوكل إليهم.
في السياسة في لبنان أوهام وأكاذيبٌ... أكاذيبٌ بَلَغَتْ حدَّ الكفرِ... ثم يأتيك من يصدّق تلك الأكاذيب ويبني عليها الى ان تنهار... كبناء يُشيَّد على أعمدة من خشب نخره السوس.
المطلوب أن نخرج من سياسة الأكاذيب... تلك التي تهدم ولا تبني.
لذلك، فلا بد من أن نعود الى سياسة الحسم تلك التي جسّدها الجنرال عون، بمساره الأخلاقي، وطرحه الوطني الجامع، الى جانب باقة من ساسة الوطن الشرفاء، بحيث قدَّم شهادة ناصعة ضد الكفر المباح... لتنضح الحقيقة ويبقى لبنان؟ ألم تكن يده ممدودة الى الجميع، ولا تزال، لصناعة السلام الحقيقي... السلام الذي يبدأ بالنفسِ ويقوم على العدل والمساواة بين الجميع... على عكس تلك الأيدي التي امتدَّت يوماً الى أعناقنا وجيوبنا وشرفنا وتاريخنا والمقدسات؟
فلا يعقل أن تكون الأمور عكس ذلك لأن صانع السلام هو من لم يشارك في صناعة الحرب؟ وهيهات أن تصبح ذهنيَّة آباء الحرب وأبنائها وأحفادها عامل استقرار وأمان... هيهات أن يصبح الكفر المباح شهادة خلاص للبنان.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية