عبد الإله بلقزيز *
ربما كانت مطالبة «النظام العربي» بأن يكون عربياً أمراً في باب التعجيز بالنظر الى عسر أوضاعه وسوء أحواله هذه الأيام. فالمطالبة هذه تدعو الى خيارات سياسية ينوء بحملها ويخشى على نفسه من تبعة «المغامرة» بالإقدام عليها. ومن تلك الخيارات ــ التي لا يكون النظام هذا عربياً إلا بالتزامها ــ حيازة الإرادة السياسية في جبه تحديات الأمن القومي والتنمية، وصون استقلالية القرار العربي وحمايته من المصادرة أو الإملاء الأجنبيين، والدفاع عن مصالح الأمة، وتوظيف موارد القوة (النفطية والسياسية والشعبية) في مواجهة الأعداء أو في مخاطبة القوى الحليفة للأعداء، بل والدفاع ــ على الأقل ــ عن القرارات التي يتخذها قادته في اجتماعات القمة، وتنفيذها، وعدم التنازل عنها بدعوى تسهيل «عملية السلام»!
هذه عناوين الحد الأدنى لعروبة النظام كما رسّخها عبد الناصر قبل أربعين سنة. ونحن نعلم أنه اليوم ما عاد يقوى عليها بعد اهترائه وتآكل شرعيته وتيه خياراته وتهافت سياساته. لكنه يستطيع، على الأقل، أن يكون (نظاماً) أقل أميركية من النظام الأميركي مثلاً، وأن لا يتفوق كثيراً على نفسه في التزام سياسات أميركا وكأنها ثوابت الموقف العربي وفي ترديد مفرداتها وكأنه في طقس من تلاوة الأوراد والأذكار! وبالجملة، إن لم يكن في مستطاعه أن يقيم دليلاً على عروبته للأسباب التي قد نفهمها من دون أن نوافق عليها، فإن الأوان آن لكي يعيد النظر في استتباعه الأميركي المديد.
يمكن هذا النظام أن يكون أقل أميركية من النظام الأميركي في المسألتين الرئيستين والمصيريتين: فلسطين والعراق، إن لم يكن في مستطاعه أن يكون كذلك في غيرها من المسائل مثل الحرب على الإرهاب والأزمة اللبنانية والملف النووي الإيراني. فقد يقال ــ مثلاً ــ إن التزامه سياسة الإدارة الأميركية تجاه الإرهاب، وتعاونه غير المشروط معها في هذا الشأن، لا يقع في باب الامتثال والرضوخ للإملاءات الأميركية بل من باب الدفاع عن النفس والأمن في وجه عنف أعمى يستهدفه هو أيضاً ويستهدف مجتمعات العرب وأوطانها.
وربما قيل أيضاً إنه لا يقوى على جبه خطر الإرهاب من دون مساعدة فنية واستخبارية من القوى الكبرى ذات الخبرة في الأمن الاجتماعي مثل الولايات المتحدة. ومع أن التبرير لا يوفر عذراً مقبولاً للنظام العربي (الموقف السليم يقول إن مستوى الاستهداف الإرهابي يرتفع كلما ترسّخ تعاون هذا النظام مع أميركا)، إلا أنه قابل لأن يُفهم من قسم من المجتمع يؤرّقه الخوف من العنف.
وقد يُقال ــ مثلاً ــ إن التزام النظام العربي (أركانه على الأقل) الموقف الأميركي من الأزمة اللبنانية، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ناجم من تقاطع في المصالح من دون تطابق في الرؤية. والتقاطع ماثل في أمور أربعة: الكشف عن حقيقة جريمة اغتيال الرئيس الحريري، دعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، تأييد بسط الدولة لسلطانها الأمني على كل أراضيها، ثم دعم سيادة لبنان واستقلاله في وجه الوصاية الخارجية. ومع أنه لا أحد يجادل في أن النظام العربي ــ شأنه شأن الإدارة الأميركية ــ لا يفهم من استقلال لبنان وسيادته ورفض الوصاية عليه سوى استقلال قراره عن الوصاية السورية والإيرانية (لا، مثلاً، عن الوصاية الأميركية والفرنسية ووصاية بعض العواصم العربية)، ومع أنه لا أحد يجادل في أن بعض قوى النظام العربي لا يعنيه كثيراً إن جرى تسييس التحقيق الدولي في جريمة الاغتيال بحيث يتجه نحو اتهام النظام السوري (وهذه رغبة واشنطن)...، إلا أن هذا التقاطع ــ غير القابل للتأويل سوى أنه تطابق في الرؤية مع السياسة الأميركية ــ لا يمنع النظام العربي من تبرير موقعه من الأزمة اللبنانية بشكل مستقل بالقول ــ مثلاً ــ إن دعم حكومة السنيورة ليس بالضرورة على حساب مطلب المعارضة في المشاركة المتوازنة، وإن تأييد حق الدولة في بسط سلطانها الأمني لا يتم حكماً من خلال الصدام مع المقاومة، بل إنهما (الحكومة والأمن) يتحققان من خلال الحوار الوطني الداخلي.
ثم قد يُقال أيضاً إن التزام النظام العربي السياسة الأميركية تجاه الموضوع النووي الإيراني مردّه خوف هذا النظام من نجاح إيران في حيازة قدرة نووية تهدد بها دول المنطقة، وخاصة في أجواء الفراغ الأمني الإقليمي الذي خلّفه تدمير الدولة والجيش في العراق، وصيرورة إيران لاعباً كبيراً في مجرى صياغة مصير كيانات المنطقة من خلال نفوذها المباشر في العراق ولبنان وغير المباشر في جوارها العربي الخليجي. ومع ان النظام العربي لا يملك أن يتجاهل أن اصطفافه ــ أو اصطفاف بعضه ــ وراء السياسة الأميركية لا معنى له سوى أنه سيجرّ عليه عواقب موقفه في حال أي هجوم عسكري أميركي على منشآت إيران النووية، إلا انه يستطيع تبرير موقفه بالقول إنه ضد الحل العسكري لأزمة الملف النووي الإيراني، ومع الحل السياسي وسياسة الحوافز الاقتصادية الرامية الى ثني إيران عن برنامج تخصيب اليورانيوم.
قلنا إن هذا النظام يمكن ان يكون أقل أميركية من النظام الأميركي في قضيتي فلسطين والعراق، إن لم يكن يستطيع ذلك في القضايا الثلاث التي ذكرنا. أما لماذا يمكنه التخفف من تأمركه في المسألتين تينك، فلأسباب عديدة: منها أنهما المسألتان الرئيستان في معركة الوجود العربي والأمن القومي أكثر من أية مسألة أخرى، ومنها أن فلسطين والعراق واقعتان تحت الاحتلال من القوة نفسها التي يتحالف معها النظام العربي (=أميركا) ومن حليفها الصهيوني، وغني عن البيان أن الاحتلال أسوأ حالة تواجهها الأمة ونظامها السياسي، ومنها ان شرعية النظام العربي تنتهي تماماً حين يسلّم بالاحتلال ويتماهى مع سياسته، وتتجدّد حين يقف موقفاً قومياً، ثم منها أن أميركا نفسها ليست موحّدة في الموقف من احتلال فلسطين والعراق كما هي موحّدة في الموقف من الإرهاب أو من برنامج إيران النووي أو من رفض «الوصاية» السورية أو الإيرانية على لبنان ودعم التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.
لن يتطلب التحرر من التأمرك الزائد في النظام العربي من هذا الأخير أن يتبنّى سياسات راديكالية تجاه سياسات الإدارة الأميركية، على مثال ما تبنّى تشافيز وموراليس ورفاقهما في أميركا اللاتينية، أو ان يتحدث بلغة تصعيدية مثلما تتحدث إيران في عهد محمود أحمدي نجاد، أو أن يخطو خطوة تاريخية نحو تقديم الدعم العسكري والمالي والسياسي للمقاومتين الوطنيتين في فلسطين والعراق...، فهذا كله أكبر بكثير من قدرة هذا النظام وأبعد بكثير عن شجاعته أو إرادته، وإنما المطلوب منه ــ ستراً للعورة ــ أن يحسّن من ظروف تأمركه في أسوأ الأحوال إن لم يكن في مكنه أن ينهي الهوس الأميركي في وجدانه وعقله السياسيين!
فلقد يستطيع النظام العربي أن يبقى وفياً لانحيازاته الأميركية إن أطلّ على الساحة الفسيحة لأميركا التي تخفيها عنه شجرة إدارة بوش واختار لنفسه التفاعل مع مــــــــــواقف سياسية أمــــــــــيركية أخرى غير مواقف البيت الأبيض. نسارع الى القول ــ هنا ــ إننا لا ندعوه الى التفاعل مع مواقف أحرار أميركا أمثال نعّوم تشومسكي أو نورمان فنكلشتاين أو ديرك غريغوري أو جين سيمونز، أو حتى رامزي كلارك، فمواقف هؤلاء أضخم من أن يتحمّل مسؤولية تبنّيها، بل ندعوه الى التفاعل مع مواقف المؤسسة الأميركية نفسها: الكونغرس والمعارضة الديموقراطية وبعض المعارضة الجمهورية لسياسات الإدارة. إن أفضل ما يفعله النظام العربي اليوم ــ المتمسّك بأميركا ــ أن يتبنّى رسمياً توصيات «لجنة بيكر ــ هاملتون» ومواقف الأغلبية في الكونغرس حول العراق، وأن يتبنّى مواقف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر حول القضية الفلسطينية، ويحوّلها الى قرارات في اجتماعات القمة ومجلس الوزراء. لن يتهمه حينها أحد بأنه ضد أميركا، لكنه سيكون أقل أميركية مما كان.
ومع هذا، نخشى من أنه لا يستطيع ذلك أيضاً، لأن توصيات بيكر ــ هاملتون ومواقف الأغلبية في الكونغرس تدعوه الى مطالبة بوش بالانسحاب من العراق، ومواقف الرئيس كارتر تدعوه الى تصليب موقفه من اسرائيل، وهو في الحالين لا يستطيع ذلك...، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* كاتب عربي