أمين محمد حطيط *
للمرة الأولى في تاريخها تقوم إسرائيل بمناورة لتحصين الجبهة الداخلية فيها من جهة الحماية أو الدفاع عنها، مناورة لم تكن اسرائيل مضطرة إليها في الماضي لأنها نجحت في تطبيق عقيدتها العسكرية القائمة في أحد بنودها على مبدأ نقل المعركة الى أرض الخصم. وبالفعل كان الإسرائيليون في الداخل البعيد بضعة كيلومترات عن الحدود يعيشون الحرب كأنها في قارة أخرى لا ينتابهم قلق أو خوف على أمنهم وسلامتهم واقتصادهم، كيف لا وهم يثقون بجيشهم الى الحد الذي كانت نتائج الحرب تعدّ ببيان مكتوب باليد الاسرائيلية قبل أن تطلق إسرائيل رصاصتها الأولى.. وقد حاول العرب عام 1973 تغيير شيء من ذلك فحالت صحراء سيناء دونهم في الجنوب، أما في الشمال فقد كان الجيش السوري يعمل في الميدان باحتراف عسكري خالص لا يضيّع جهداً أو وقتاً في استهداف مراكز مدنية بعيدة عن أرض المعركة، فخصص الجهد للأهم في الميدان وهو تحرير الأرض من دون تشتيت القوى في معارك خارجه...
ثم جاءت حرب لبنان 2006 التي اقترحتها إسرائيل لتغيّر المشهد، وتضع مليون ونصف مليون إسرائيلي في دائرة النار وتظهر هشاشة الجبهة الداخلية هناك على أكثر من صعيد: الحماية المباشرة، التدخل الإنقاذي، عمليات المعالجة والإسعاف، حتى في مسألة التموين... لقد نجحت المقاومة في إظهار حقيقة المجتمع الإسرائيلي التي كان لا يعيرها انتباهاً لا بل يروّج خلافها في صفوفه... كانوا يقولون إن الجبهة الداخلية متراصة منيعة والفرد آمن في موقعه لا يطاله أذى من أحد والجيوش العربية لا تجرؤ على النيل من العمق الإسرائيلي لأسباب منها: خشية ردة الفعل الانتقامية، خشية ردة الفعل الدولية، عجز في الأساس عن الوصول الى العمق الإسرائيلي بسبب فعالية المنظومة الدفاعية.. لهذا السبب كانت اسرائيل غير مكترثة للأمر وكانت تسمح لنفسها بخوض حرب كالفارس الذي ينزل الى حلبة المبارزة من غير درع ثقةً منه بنفسه وعدم اكتراث لقدرة الخصم... حتى جاءت المقاومة وأظهرت لإسرائيل أن الحرب ليست نزهة لجيشها ولا للشعب، بل إن الحرب هي الحرب والألم يطال الفريقين.. مصداقاً لقوله تعالى للمؤمنين الذي يقاتلون في سبيله: إن كنتم تألمون فإنهم يألمون كما تألمون». ألم حمل إسرائيل على اللهث وراء حل دبلوماسي لمأزقها فكان القرار 1701
وهو قرار أوقف الأعمال العدائية الإسرائيلية ضد لبنان (هذا نظرياً ولكن اسرائيل لم تحترم القرار بحرفيته) ولم يوقف إطلاق النار... ما يعني أن الحرب، بالعرف والقانون، تبقى قائمة، والجند جاهزون للمتابعة ولسنا في سلام، ولا في هدنة، ولا في حالة وقف إطلاق نار، بل في وضع موقت توقفت فيه القوى عن متابعة القتال وبقيت أصابعها على الزناد، وكان ذلك بسبب ظرف خاص بمن قرر الحرب أصلاً وسيكون الاستئناف عند تغيّر الظرف.. وبما ان اسرائيل كما بات واضحاً هي التي شاءت الحرب وعجزت فيها عن بلوغ الهدف، وأن أميركا هي التي قررت الحرب وهي التي قررت وقف الأعمال القتالية ولم تسمح حتى الآن بوقف إطلاق النار، لأنها تريد شيئاً ما في المستقبل عجزت عن تحقيقه في الحاضر، وبالفعل تبدّى مما أُعلن ومما تسرّب من مواقف أن اسرائيل ومن قادها الى الحرب ومن أيّدها فيها، أدركوا عجزها عن نزع سلاح المقاومة، فهذا بولتون السفير الأميركي ومهندس القرار 1701 يعترف صراحة بأن هذا القرار أجّل الموضوع ولا نزع للسلاح في المدى المنظور، والأمر ينتظر موقفاً آخر؟ ولكن متى؟ طبعاً لم يكن التأجيل عفّة نفس أو كرم أخلاق بل عجز عن التنفيذ أصلاً ولا يكون ذلك إلا اذا تغيرت حال العجز. بهذا المنطق ينبغي ان ننظر من حيث المبدأ الى ما تقوم به إسرائيل الآن من مناورات، لأن ما يجري عندها قد يشكل طريقاً للإجابة المبحوث عنها: متى يستأنف القتال في حرب لا زالت مفتوحة؟ وإذا كانت تحقيقات اللجان الإسرائيلية لتحديد أسباب الإخفاق وتحديد المسؤوليات عنه قد شارفت على النهاية، وستكون مجازر سياسية وعسكرية على صعيد المسؤولين عن الحرب، فإن الذي ينبغي التوقف عنده بصورة أدق هو ما يدور على الصعيد الأمني والعسكري القتالي، حيث إن اسرائيل نفّذت وفي مدة ستة أسابيع ثلاثة أنواع من المناورات العسكرية، واحدة في الجولان في مقابل الجبهة مع سوريا، وثانية مع قوات أميركية وثالثة حصرتها في الجبهة الداخلية...
هذه المناورات تطرح السؤال: هل إسرائيل في صدد الإعداد لحرب، تستلحق خلالها ما فاتها تحقيقه في حرب تموز، أم لهذه المناورات معنى آخر؟
في العرف العسكري تُجري الجيوش مناوراتها العسكرية تحت عنوان من اثنين، الأول في إطار التدريب الروتيني العادي لترسيخ العقيدة القتالية ورفع مستوى مهارات الجند في العمل الميداني العسكري المنسق بين القوى، والثاني تدريب القوى على خوض معركة من طبيعة معينة في مواجهة عدو محدد، ولتحقيق هدف معين مسبقاً.. أي الإعداد لحرب وتمرّس الجند على مستلزماتها وظروفها. ففي أي من الوضعين تعمل اسرائيل الآن؟
لم تخرج إسرائيل من حرب لبنان مهزومة في معركة أو في حرب محددة، بل في الأساسي والجوهري من عقيدتها وبنيتها العسكرية، حيث ان هذه الحرب أسقطت أجزاءً من العقيدة وكشفت عورات الجبهة الداخلية، لذلك كان عليها أن ترمّم ما كان قد ظهر فساده، قبل ان تفكر في حرب جديدة، وإن كانت الحرب في الفكر الإسرائيلي هي الطريق الوحيد لتحقيق الأهداف، لأن إسرائيل قامت أساساً على خلاف الحق والشرعية وتحتاج الى القوة التي تحافظ بها على حالة قهر الآخر واغتصاب الحقوق...... لكن لا يحارب مَن لمس الضعف في بنيته، وأدرك الوهن في طاقاته وقدراته، إلا إذا كان على خلاف أو في طلاق مع المنطق والعقلانية... لهذا نقول إن للمناورات الإسرائيلية هدفاً غير الإعداد لحرب قريبة إذا كان في إسرائيل من يتقيّد بمنطق الدخول في المواجهات العسكرية.
وفي هذا الإطار يمكن تفسير مناورات الجولان بأنها رسالة الى سوريا تقول إن إسرائيل ما زالت تتمتع بقدرات عسكرية كافية للردع وتحقيق المطلوب في الميدان، وأن ما سببته حرب لبنان من تآكل في القوة الردعية الاسرائيلية هو في معرض الترميم... وهذا أمر مفهوم ويمكن توقّعه في أي جيش أخفق في حرب وعليه أن يعالج أسباب إخفاقه ويتمرّس على الوضع الجديد المعتمد بعد تحديد الأسباب ووصف طرق العلاج... إنها مناورات لاستعادة ما فُقد قبل أن تكون تعبئة لحرب.
أما المناورة في الداخل فإن دلالاتها أكبر وأخطر، فمنها يستطيع المراقب أو الخبير أن يستنتج أن اسرائيل أدركت أخيراً أن عصراً جديداً قد بدأ بالنسبة إليها، عصر تتحوّل فيه من القوة الخارقة التي تفعل ما تشاء من دون أن تخشى أحداً، الى قوة عادية كقوى هذه المعمورة يُردّ عليها بما يناسب مبادرتها وفعلها.. فإن هاجمت تُهاجم، وإن دمرت يُدمر لها، والهجوم لم يعد حكراً عليها فتمارس الهجوم للهجوم بمنطق أن خير الدفاع هو الهجوم والهجوم فقط... بل إن على اسرائيل أن تفكر كما تفكر دول العالم بوسائل تدافع بها عن الجبهة الداخلية، وتحمي الفرد الخائف والاقتصاد المهدد والمجتمع القلق.
وعليه، كانت استقالة حالوتس منذ شهرين بمثابة التوقيع الرسمي العسكري الإسرائيلي على صك هزيمة إسرائيل في حربها على لبنان، ومنها انفجر بركان الفضائح العسكرية وما ينتظر بعده من فضائح سياسية في إدارة الحرب، وما نشرُ بعض محاضر المجلس الوزاري المصغّر إلا بعض مقدماتها. وإن مناورات «الجبهة الداخلية» ما هي الآن إلا لتعزيز مناعة جبهة ثبت ضعفها خلال الحرب، ولعلاج قلق استشرى بعد الحرب، وبذلك هي توقيع إسرائيلي رسمي على وثيقة الإقرار بوهن المجتمع الاسرائيلي وجبهته الداخلية التي لا تسمح في وضعها الحاضر بخوض الحروب التي يستطيع الخصم أن يصل فيها الى عمق إسرائيل، وعليها تعزيز هذه الجبهة قبل أي حرب.. فهل ستنجح في ما تقصد؟
يعرف المراقبون والخبراء أن مناورة واحدة أو تدبيراً معيناً في نطاق محدد لا يكفي لقلب الصورة، وخاصة في مسألة الجبهة الداخلية، لذلك نقول إن قرار الحرب مستقبلاً لن يكون سهلاً على اسرائيل اتخاذه قبل أن تطمئن الى مناعة جبهتها الداخلية في الأمن والحماية والدفاع، وهذه الطمأنينة لا تحصل في شهر أو في مناورة بل تكون ثمرة عمل تراكمي حثيث تلزمه السنوات، وهنا نسأل: هل تداعيات حرب تموز 2006 وصلت الى حد التأثير الجذري في إسرائيل لناحية اتخاذ قرارات الحرب التي كانت سهلة قبلها وتعقّدت بعدها؟ نعتقد أن الأمر كذلك.
* عميد ركن متقاعد ومحلل استراتيجي