فؤاد خليل *
تختزن الذاكرة الجمعية عند الشيعة صوراً شتى من الظلم الذي خبروه طويلاً على امتداد مراحل تاريخهم الاجتماعي والسياسي. ففي صورة متأخرة منه في أيام بني عثمان في نهاية القرن التاسع عشر، كان الشيعة غير مشمولين في نطاق التصنيف الدولتي للجماعات المعمول به أو السائد في تلك الفترة. ولقد شرّع إخراجهم من أي تصنيف رسمي، سياسة الدولة في إهمالهم والتضييق عليهم أو تحويل مناطق وجودهم إلى «معازل» هامشية أو طرفية، أي إلى معازل لم تدخل الدولة إليها إلا في صورة «انكشاري» وبرفقته «التحصلدار» من أجل الاستيلاء على فائضٍ من إنتاج لا يتعدى كثيراً حدود الكفاف أو أود العيش الطبيعي. في ضوء تلك السياسة، انتظمت العلاقة بين الشيعة والنظام السياسي الناشئ في لبنان الكبير. وقد وجدت بعض تجلّياتها في أن الدولة لم تخصّ مناطق هؤلاء بأي خدمات أو تقديمات حقيقية، ما خلا حضورها بالطبع في الصورة الحديثة «للجندرمة وجابي الضرائب»، وفي أن التمثيل الشيعي في مؤسساتها السياسية والدستورية بقي محسوباً في إطار التوازن الشكلي بين الطوائف، ولم يتعدّه إلى قدر من المشاركة الفعلية في إدارة شؤون البلاد...
وفي الجمهورية الأولى، تحسّن تمثيل الشيعة نسبياً. لكن طابعه الإجمالي لم يرقَ إلى مستوى فعّال ومؤثر في توازنات السلطة أو آليات اتخاذ القرار في الحكم. فالصيغة الميثاقية التي ارتكزت بشكل أساسي على ثنائية سنية ــ مارونية، وما انتهجته من توزيع فئوي لأنصبة الطوائف التمثيلية، لم تفرد للشيعة مواقع مفصلية أو رئيسة في مؤسسات النظام السياسية والإدارية، لكي تمدّهم بالنفوذ السلطوي ذي الدور الوازن في مجرى السياسة العامة للدولة. ومن جهتها، أدت سياسة التصنيف بين المركز والأطراف، كما سياسة الاستئثار بالمغانم والامتيازات، إلى تهميش «معاقل» الشيعة وحرمانها أيّ تدخّل تنموي مركزي.
أمام ذلك كله، احتل الشيعة موقع «الامتياز» على سلّم الغبن والحرمان في دولة الاستقلال، فكان أن تحوّلوا موضوعياً إلى جمهور شعبي احتشد في معاقله وضواحي العاصمة، وشكّل رافداً رئيساً للعمل الوطني واليساري بأشكاله كافة...
لكن هذا التحوّل الذي وضع الشيعة في سياق مغاير عن نظام التمثيل الطائفي، لم يرفع عنهم الغبن، ولم يحقّق لهم المشاركة المتوازنة في الحكم مع بقية الطوائف الأخرى. فكان ثمة ضرورة سياسية، وجدتها نخبة واسعة من مرجعياتهم الدينية والزمنية لإخراجهم من ذاك السياق، وإعادة بناء واقعهم بما يضمن لهم نصابهم التمثيلي الحقيقي ومشاركتهم الفعلية في مؤسسات الدولة. وهكذا، عمل الشيعة على بناء انتظامهم الطائفي المؤسسي الذي تُوّج بتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1967. ثم وجدوا أنفسهم في مواكبة حركة سياسية يقودها الإمام الصدر وتدعو إلى رفع الغبن والحرمان عنهم وعن المحرومين في كل لبنان.
وفي خضم التطور الذي عرفته تلك الحركة قبل الحرب وفي طورها السبعيني، أخذ الجمهور الشعبي يتفكّك ويُعاد تشكيله في كتلة طائفية تتحفّز للدخول إلى المشهد اللبناني من موقع جديد. ولقد جاءت دعوة حركة «أمل» إلى التوازن والمشاركة في الحكم، ترسم الإطار السياسي للموقع المأمول في توازنات السلطة وتركيبة الدولة. وعلى الرغم من أن الدعوة هذه، لم تجد طريقها إلى التحقق بسبب رفض القوى المهيمنة على النظام الطائفي وقتذاك، إلا أنها بقيت تحظى ليس فقط بالدعم المعهود لها، بل أيضاً بتوسّع كتلتها المؤيدة وتنامي حجمها ودورها في مجرى الحرب.
حينذاك، صنع الشيعة موقعهم الجديد، أي موقعاً رئيساً في نطاق المعادلات أو التوازنات القائمة بين القوى. ثم أفادوا مما سمي الصحوة الإسلامية في المنطقة في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران، فأسسوا في المنتصف الأول من الثمانينيات حركة سياسية جديدة هي «حزب الله»، ما شكّل وزناً إضافياً إلى دورهم الإجمالي، وبخاصة أن الحزب أخذ على عاتقه مهمة جهادية أولى هي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي...
في ضوء ذلك، دخل الشيعة في طور من الصعود السياسي المطّرد. وقد شارك في بنائه على نحو أساسي الثنائي الحزبي أمل وحزب الله، كلٌّ من موقعه وبدعم إقليمي من سوريا وإيران. فحركة أمل انخرطت في الحرب على أكثر من جبهة، وحظيت بدعم سوري استثنائي بحيث تحولت إلى قوة حيوية فائقة النشاط في الصراع الأهلي، وذات وزن كبير بين أطرافه. وحزب الله انخرط في الجهاد بدعم سوري وإيراني مشترك، وكان يواصل تشكّله السياسي في ظل دينامية مكثّفة حققت له توسّعاً وانتشاراً غير مسبوقين على ساحة عمله.
ومع تينك الحيوية والدينامية كان الصعود السياسي الشيعي يجد ترجمته، بعدما تجاوز عقباته الداخلية في نهاية الثمانينيات وفي مطلع التسعينيات، في مشروع ذي مرتكزين رئيسين: المشاركة في مؤسسات الدولة، وهي مهمة تمثيلية أُسندت بالدرجة الأولى إلى حركة أمل، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهي مهمة نضالية أُوكلت في المقام الأول إلى حزب الله. وهذا ما استقر عليه واقع الحال في مرحلة الطائف. فلقد أمسكت أمل بملف التمثيل الشيعي، وحققت مشاركة فعالة في السلطة جاءت تمثّل بشكل أو بآخر تعويضاً عن الحرمان الذي لحق بالشيعة تاريخياً، ثم تحوّلت بشخص رئيسها وبرعاية سورية خاصة، إلى ركن محوري من أركان الترويكا في الحكم، الأمر الذي وضع الطائفة الشيعية لعقد من الزمن، في موقع أرجحي على خريطة موازين القوى بين الطوائف اللبنانية.
وبدوره، أخذ حزب الله على عاتقه المقاومة، وانتهج خطاً جهادياً وازن فيه بين مبدئية صارمة وبراغماتية مرنة. فاتّبع من منطلق تلك الموازنة، سياسة رشيدة وفّرت له تأييداً شعبياً واسعاً شكّل الظهير الحقيقي الذي حمى المقاومة واحتضن شرعيتها الجهادية. وابتدع أساليب ووسائل ناجعة جعلته يطوّر عمله المقاوم، ويرتقي به إلى طور نوعي متقدم... وفي النهاية، أمكن الحزب أن يصل إلى لحظة النصر، ويحرّر الجنوب في أيار من عام 2000.
لكن ما أعقب لحظة التحرير، جاء يبدّد الفرصة التاريخية التي أتاحها هذا الإنجاز لبناء وطنية لبنانية جامعة، ويُظهر أن قدرة الطوائف هي فائقة على ابتلاع كل ما هو وطني وتسييله في رصيد لعبتها السياسية المعهودة. ثم وقعت الحرب الأخيرة في شهر تموز 2006 فجاءت تداعياتها تحمل على الصعيد الداخلي تنامياً في الانقسام الطائفي الذي تموضع في صيغة ائتلافين طائفييْن لكل منهما نظرته الخاصة إلى القضايا المطروحة.
وجرّاء فشل طاولة التشاور، تفاقمت الأزمة السياسية في البلد، وبخاصة أنها تركّزت على إقرار المحكمة الدولية وتأليف حكومة وحدة وطنية. حينذاك تمسّك الائتلاف الذي يشكل الشيعة عصبه الرئيس بمطلب حكومة الوحدة لتحقيق المشاركة من خلال ضمان الثلث المعطل. وفي المقابل تمسّك الائتلاف الآخر الذي يشكل السُنّة عصبه الأساس بمطلب إقرار المحكمة. وبعد إصرار كل فريق على تصوير مطلبه بأنه يمثّل أولوية وطنية، وصلت الأزمة إلى ذروتها، فأخذ أطرافها سواء في «المعارضة» أو في «الموالاة»، يحتكمون إلى الشارع ويسبغون عليه صورة انقسامهم الأصلي، ما جعلها تتحول من أزمة سياسية ــ حكومية إلى أزمة وطنية مفتوحة على احتمالات خطيرة.
(الخميس المقبل: السنة ونبذ العصبية)
* باحث لبناني