كيف كنّا سنعرف أنّ الداعشية فصيل وهابيّ، وأنّ الوهابية فصيل سلفيّ، وأنّ الحنبلية هي غير الشافعية والمالكية والحنفية. من كان سيُفهمنا أنّ الزيدية تنقسم إلى «هادوية» و»جارودية»، وأنّ الأخيرة أتت بالحوثية، وأنّ الحوثية التحقت حديثاً بالشيعة الإثني عشرية، وهي غير الشيعة الإسماعيلية التي منها خرجت «النزارية» سليلة القرمطية. كيف لنا أن نعرف أنّ النواصب قد «أزاحوا حجج الله عن مراتبهم»، وأنّ الروافض «بدعة إجترحها اليهودي عبدالله بن سبأ».
من كان سيلهمنا أنّ حرب النواصب والروافض سبقت بألف عام ولادة شياطين العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية صانعة كلّ الشرور، وأنّها مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. كيف كان لهذا العقل البائس أن يتحطّم تماماً وتتشظى معه مدن وتذوب أوطان وتتطاير أشلاء لو أنّهم لم يصحوا جميعاً؟ هل لنا أن نقول إلاّ الحمد لله على نعمة «الصحوة»؟!
كان على جورج لوكاتش، المفكّر الماركسي صاحب «تحطيم العقل»، أن يبقى حيّاً ليشهد على التجربة الأكثر إثارة في في ازدراء العقل وتدميره، فهو لزوم ما لا يلزم. ولم يكن من الممكن تحويل المكان إلى ما هو عليه من دون استثارة غرائز العامة وتحويلها إلى قطعان بشرية هائجة في مواجهة قطعان أُخر على خلفيّة اليقين الراسخ بالأحقيّة والأفضليّة في عين الكائن الأزليّ الأكبر ــــ الله. فهذه الكائنات لا تعي بالأصل حقيقتها، ولم يتكوّن لديها أي وعيّ واقعيّ لطبيعة الصراع، بل هي تردّد، بببغائيّة مفرطة، مصطلح «هو عدوي لأنّه عدو الله». والمذاهب بطبيعتها لا يمكن أن تُدرك ذاتها إلاّ في مرآة نقيضها. فالنقيض هو مبرّر وجودها، وبغياب النقيض ينتفي الصراع ويذوب المذهب في غياهب النسيان. ولهذا يصبح مفهوما ذاك الفصام الذي يجعل من مذاهب متناحرة دموياً تتناسى تناحرها للحظات وتتآلف حين يتعرض أحدها لخطر الإنقراض. فالملعب يتسع للجميع والإثارة تفقد الشيء الكثير بافتقاد إحدى مكوّناتها.
لا يستشعر السعودي الثريّ خطر اليمني الجائع، بالمقدار عينه الذي لا يعي معه اليمني بأنّ «ما مُتّع غنيّ إلاّ بما حُرم منه فقير». لكنّ أجهزة الرصد والإستشعار السعودية تُثار ولأقصى حد في ملامسة عناوين «رافضية» على حدودها، بينما لا يُدرك اليمني، والحوثيّ بالذات، إلاّ رائحة الوهابية في جاره. وفي كلتي الحالتين هناك شذوذ في اتجاهات بوصلة الصراع. فهي لا تشير إلى المسار السليم لحركة التاريخ. وما ينطبق على اليمن ينبطق على كلّ مكان وزمان شهد ويشهد حلبة مصارعة الإسلام السياسي. وهي حلبة يسوسها المكوّن الأعلى من الهرم فيها، الرأسمالية العالمية المتوّحشة، والتي لا يؤسفها أنّ ألف مليار على سبيل المثال دخلت خزائنها في تسع سنوات من حرب العراق وإيران، وهي أرباح جنتها من امتلاكها وسائل الهدم ووسائل البناء. فالعقل الرأسماليّ المكتمل والأشدّ نضجاً لا يعنيه مجاراة الميليشيات الشيعية في تحريرها لتكريت من دواعش هو في أساس وجودهم، أو دكّ معاقل الحوثيين الشيعة وإطلاق العنان للقاعدة، بقدر ما تعنيه دورة رأس المال المنتشية بهذه اللعبة. وهي لعبة مربحة للإستثمار الدوليّ منه والاقليمي. فكلّ ما يستلزمه الأمر هو ماكينة إعلامية ضخمة وتجييش مذهبي واسع وبثّ روح «التضحية» على مذبح قداسات تمّ تضخيمها لجمهور يعشق الأيقونة.
لطالما وجد هيغل «أن الشرق لا يقوم إلاّ لنبيّ أو إمام». وهو ما زال لا يقوم إلاّ لنبي أو إمام. لكنّ الإشكالية ليست في القيامة، بقدر ما هي التدحرج الأزليّ نحو السقيفة وما تلاها. فهل يولد الوعيّ الطبقيّ على ضفاف بحار الهلوسة؟