عفيف رزق *
عالجت الورقة الإصلاحية التي قدمتها الحكومة إلى مؤتمر باريس 3، الذي عقد بتاريخ 25/1/2007، تحت عنوان «برنامج لبنان الاقتصادي» قضايا الإدارة العامة وإصلاحها من خلال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وقد جاء ذلك عبر فقرات متفرقة من ضمن عملية النهوض الاقتصادي.
إن القراءة المتأنية لهذه الورقة تقودنا إلى إبداء الملاحظتين الآتيتين:
الأولى: أن واضعي الورقة يقولون صراحة، إن الحكومة ملتزمة تطبيق برنامج الإصلاح السابق للحرب (أي الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز ــ آب 2007)، ونظراً للآثار المدمرة التي خلفتها هذه الحرب على الاقتصاد الوطني، كان لا بد من إعادة جدولة تلك الإصلاحات...
الثانية: إذاً الأفكار الرئيسية التي كانت تطرحها الحكومة، في ما خص الشق الإداري هي نفسها من تضخم حجم القطاع العام وضرورة ترشيقه، وكلفته المادية الباهظة وضرورة ترشيدها، ضمن استراتيجية تقوم على الإصلاح والتطوير الإداري، تحديث التشريعات والهيكليات وتقليص حجم القطاع العام وكلفته وتطوير الموارد البشرية وإقامة إدارة تتوجه نحو المواطن.
إنما اللافت في هذا السياق، أن عبارة «قطاع عام مترهل» غابت عن النص تماماً، ودخلت «القاموس الإداري» عبارة جديدة هي «الحكومة الجيدة والحكم الرشيد».
لكن ما هي أهم المشاكل المتعلقة بالإدارة العامة التي طرحتها الورقة، وما هي الحلول التي قدمتها؟
أولاً: في قضية تضخم القطاع العام.
يسود مفهوم ملتبس بأن القطاع العام متضخم وفضفاض، وكما يرد في بعض الدراسات التي تعنى بهذا الجانب أن القطاع العام يستهلك 40 بالمئة من الموازنة العامة ويبلغ حجمه حوالى 26 ألف موظف في الأسلاك المدنية والعسكرية.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هنا هو: ممن يتشكل القطاع العام؟
إذا كان المقصود بهذه العبارة أن العامل في القطاع العام هو كل من يتقاضى راتباً أو أجراً أو بدلاً مالياً من خزينة الدولة أي: الموظف في الملاك الدائم ــــــ والمتعاقد والأجير والمستخدم في مؤسسة عامة وموظف البلديات والمتعامل في إدارة عامة أو مؤسسة عامة والعامل غب الطلب والعامل تحت بند «شراء خدمات» أو «بدل أتعاب» والمستشار والخبير.
في هذا الحال يصبح عديد القطاع العام متضخماً وفضفاضاً، إنما تبرز مشكلة هامة جداً هي أن معالجة المشاكل التي طرحها كل من هؤلاء لا يمكن مطلقاً أن تكون هي نفسها...
لكن ما نعتقده أن واضعي الورقة ينحصر همهم في معالجة وضع القطاع العام الدائم بأسلاكه المتنوعة: الإدارية والتربوية والقضائية والأمنية، لما يشكل من أعباء مالية على الموازنة العامة كما يظهر من بنود هذه الورقة.
إنما ما هي وقائع هذه الأسلاك؟
في ما خص السلك الإداري نرى، من خلال استعراض حقائق هذا السلك أنه لا يعاني من مشكلة تضخم، ففي تقريره لعام 2004، قال مجلس الخدمة المدنية إن عدد موظفي الملاك الدائم في السلك الإداري لا يتجاوز العشرة آلاف موظف (يضاف إليهم بضعة آلاف من المتعاقدين والأجراء)، وفي مقابلة للسيد وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية في صحيفة «الأخبار» بتاريخ 5/3/2007 قال: «إن الشواغر في الملاك الإداري العام على صعيد الفئات الأولى والثانية والثالثة هي كثيرة، أما في الوظائف الأخرى في الفئتين الرابعة والخامسة فهناك فائض...». وفي الصفحة (920) من الورقة الإصلاحية جاء ما يلي: «... وخلال السنوات الخمس المقبلة سيتقاعد حوالى 20 بالمئة من مستخدمي القطاع العام و 45 بالمئة في السنوات العشر التالية...» ويتعزز قولنا بأنه لا مشكلة تضخم في هذا الملاك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه لم يدخل إلى هذا السلك منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي إلا العدد الضئيل جداً من الموظفين.
أما في ما خص السلك التربوي فإن الورقة الإصلاحية طرحت قضاياه التي لا مجال لمناقشتها في سياق هذه الدراسة، وفي السلك القضائي فإن الحكومة لا تعتبر أن هناك تضخماً، وفي الأسلاك الأمنية جاء في الورقة الاصلاحية ما حرفيته في الفقرة (73): «في المقابل فإن من المرتقب أن يزيد العديد في الجيش والمؤسسات الأمنية في الأمد القريب لتلبية الاحتياجات الأمنية الراهنة ولتنفيذ التزامات لبنان...».
نخلص مما تقدم إلى استنتاج أن هناك غموضاً وتناقضاً في تحديد مفهوم «العامل في القطاع العام» ينسحب إرباكاً في رؤية المشاكل وطرق حلها.
ثانياً: إصلاح نظام التقاعد ونهاية الخدمة.
جاء في الفقرة (67) من الورقة الإصلاحية: «إن إصلاح نظام التقاعد يعتبر أولوية بسبب تأثيره المالي والاقتصادي والاجتماعي...». وجاء في الفقرة التالية: «أما بالنسبة إلى نظامي التقاعد ونهاية الخدمة في القطاع العام، المدني والعسكري، فإنهما يفرضان، عبئاً ثقيلاً على الموازنة ــ 2,5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2004...» من الناحية المبدئية هذا القول صحيح، لكن ما هو الحل؟
تقدم الورقة الحل لهذا العبء عبر المساعدة الفنية من البنك الدولي لتخلص إلى الدعوة لتبني نظام جديد أتى مبهماً وغامضاً... إن اللافت في هذا الميدان هو أن جميع الحكومات المتعاقبة، لدى عرضها لهذه المشكلة، لم تهتم بما هو مطروح على الصعيد التشريعي في لبنان ولا ما هو قائم في كثير من الدول التي نجحت في تفادي الوقوع تحت عبء هذه المشكلة.
فعلى صعيد التشريعات الداخلية اللبنانية سن المشترع اللبناني قانوناً عام 1929، أي تحت فترة الانتداب الفرنسي، طالب فيه بإنشاء صندوق مستقل للمتقاعدين، وأعاد تكرار هذه المطالبة عبر قوانين عدة مرات في فترة الاستقلال، حتى أنه تسهيلاً لعمل الحكومة، أصبح إنشاء هذا الصندوق يتم بناءً على مرسوم لا على قانون، كما أن تقارير الهيئات المتعاقبة لمجلس الخدمة المدنية في لبنان ما زالت توصي بضرورة إنشاء هذا الصندوق. أما على صعيد تجارب الدول الأجنبية فإن العديد منها اعتمد للتخلص من العبء المالي للمتقاعدين تجربة الصندوق المستقل، ونجحت هذه التجربة، ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية وفرنسا واليابان والولايات المتحدة الأميركية... إن من حق المهتمين بشؤون القطاع العام التساؤل: لماذا الإصرار الرسمي على تجاهل النصوص التشريعية والتقارير العلمية والتجارب الخارجية؟
ثالثاً: موضوع تمديد ساعات العمل.
تحت عنوان «إجراءات على صعيد الإنفاق ــــــ الإنفاق الأولي «جاء في الفقرة (72) البند 3 ما يلي: «التوفير في تعويضات النقل ومصاريف أخرى عبر تمديد ساعات العمل في القطاع العام في 32 ساعة أسبوعياً إلى 36 ساعة بحلول منتصف عام 2007».
لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه القضية كانت قد طرحت مرات عديدة، كما أنها نوقشت بشكل مستفيض من قبل الجهات الرسمية (مجلس الخدمة المدنية) والجهات المهتمة بشؤون الموظفين وقدمت الحلول المناسبة لها، لذلك نتمنى أن يصار إلى التعاطي الإيجابي من الحكومة في هذه القضية الهامة.
رابعاً: الإصلاح المنقوص
تركز الورقة الإصلاحية على محاربة الفساد وضرورة وقف الهدر في المال العام لتشجيع الاستثمارات وتحفيز النمو واعتماد الشفافية في الإدارة العامة وغير ذلك من الأمور التي يعتبرها المواطن العادي من أولى أولويات أي سلطة تعمل على كبح جماح الدين العام وخدمة فوائده، ومع ذلك فإن البنود الإصلاحية تبقى منقوصة. يكفي أن نشير إلى قضيتين رئيسيتين:
الأولى: جاء في الفقرة (99) ما يلي:
«... هناك حاجة ملحة لإيجاد حل لمشكلة التعدي على الأملاك البحرية...»
ثم تدعو لتبني مشروع القانون الذي أعدته لهذه الغاية... لكن لم تذكر الورقة قضية التعدي على الأملاك النهرية التي لا تقل أهمية من الناحية المالية من الأملاك البحرية، كما أنها لم تأت على ذكر هدر آخر يكلف الخزينة ما بين 25 و 300 مليار سنوياً ويتمثل بالمبالغ التي تدفع كبدل إيجارات للأبنية التي تشغلها الإدارات العامة، إذ إننا نعتقد أن باستطاعة الحكومة العمل من ضمن خطة خمسية أو عشرية لبناء مراكز رسمية لوزاراتها وإداراتها العامة وتتوقف بالتالي عن دفع المبالغ المذكورة أعلاه.
الثانية: صحيح أن الورقة الإصلاحية أتت تحت عنوان «برنامج لبنان الاقتصادي» ولذلك طرحت قضايا الإصلاح من زاويتين اقتصادية واجتماعية، لكنها لم تتطرق إلى الإصلاح السياسي الذي نقصد به هنا على صعيد «تدخل السياسة» في الشؤون الإدارية. لقد عانى ويعاني الموظفون في القطاع العام أبشع أنواع التدخل في شؤونهم من الطبقة السياسية، حيث تحول همّ عناصر هذه الطبقة: مطاردة المركز الشاغر والوظيفة الجديدة في الإدارة العامة، لحشر الأقرباء والأنصار دون مراعاة الحد الأدنى من الكفاءة المطلوبة. لقد تمّ تجريب العديد من الوسائل، لكنها لم تنجح، وبقيت الإدارة العامة مرتعاً خصباً لكل متسلط.
* الرئيس السابق لرابطة خريجي معهد الادارة