علي الشامي *
يندرج اقتراح الحلول في معالجة مرض الطائفية في سياق مغالطة مفهومية مماثلة لمغالطات توصيف الطائفية نفسها. ففي حين يشدّد الكثير من المثقفين على الفكرة القائلة بأن علّة وجود الطائفية وآليات عملها تتجسّد في إسقاط لمقولات تهبط بالطائفية من أعلى إلى أسفل، يأتي الحلّ العلماني، الذي يواظب المثقفون على اقتراحه علاجاً من الطائفية وبديلاً لها، في إطار من الأفكار والمفاهيم والتجارب المنقولة عشوائياً من مجتمعات بلا طوائف إلى مجتمع طوائفي. ولا تعود المغالطة إلى العلمانية في ذاتها بقدر ما تعود إلى تجريدها من واقعها الفعلي والتاريخي وتقديمها كوصفة جاهزة لكل المجتمعات، بصرف النظر عن خصوصياتها المجتمعية وهوياتها الثقافية والدينية.
فالعلمانية، كما هي سائدة في أوروبا تحديداً، تحمل وجهين: وجه تكون به تحريراً للدولة من سلطة الدين ونصوصه المقدسة ومؤسساته، ووجه آخر تمثّل فيه اعترافاً بحرية الإيمان والاجتماع الأهلي في مذاهب وكنائس وعبادة شخصية واحتراماً لرأي أو عقيدة أو جماعة تؤمن بما تراه أهلاً للإيمان، إلهاً كان أو فيلسوفاً أو مُصلحاً أو قوة أو سلعة أو عرقاً... وتؤلّف هذه، مجتمعة ومنفردة، خصائص الديموقراطية ونظامها السياسي والمجتمعي والأخلاقي. وبينما تظهر العلمانية الأوروبية في صورة خلاص من حروب الطبقات والمذاهب، فإنها تقوم أيضاً على تعايش مع الطبقات والطوائف والمذاهب وتمنع حروبها الظاهرة والخفيّة أو تمنحها تسميات تتلازم وروح العصر والحضارة. وهذا يعني أن العلمانية وأختها الديموقراطية تسيران جنباً إلى جنب مع المسيحية كمؤسسة أو أيديولوجية، وهذه حالة الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، مثلما تتأقلم مع الحروب الأهلية الغربية، وفق عبارة «وليم ليند»، مثلما تغضّ الطرف عن إبادة شعوب بكاملها ونهب خيراتها وإرغامها على قبول ثقافة غير ثقافتها واقتصاد غير اقتصادها ودولة غير دولتها...
وهذا ما يفسّر إجماع أهل الغرب على العلمانية وانتظامهم في مذاهب دينية تخترق برامج أحزابهم وقوانين حكوماتهم ومعتقدات زعمائهم وشعارات حملاتهم العسكرية واختلاف أنظمتهم الاقتصادية والسياسية والأخلاقية. ومع ذلك، تبقى العلمانية، بوجهيها، اقتراحاً للخلاص من الطائفية، طالما أنها تجربة ناجحة وناجزة يمكن التعويل عليها. بيد أنها لا تأتي بجديد نوعي. فالعلمانية، بما هي فصل الدين عن السياسة، تجد صورتها في الطائفية لا في نقيضها. إذ إن الطائفية السياسية لا تعدو كونها توظيفاً للدين في السياسة، بمعنى أنها لا تنتمي إلى الدين كرسالة أو أخلاق أو عبادات. والطائفية دولة ومؤسسات وقوانين وعلاقات، وهذه كلها لا تستلهم النصوص المقدسة على الإطلاق، بقدر ما تقوم على توازنات القوى، وبقدر ما تحكم وتقضي انطلاقاً من قوانين وضعية أوروبية الأصل والفصل والمسار. فالدولة بكل مؤسساتها، لا ترجع في حكمها وأحكامها إلى قرآن أو إنجيل أو أحاديث الأنبياء والرسل والقدّيسين. والعلمانية، بما هي حرية رأي وعقيدة، لم تفارق المجتمع أبداً. ففي المجتمع اللبناني تتعايش المذاهب والطوائف والتيارات الفكرية الأخرى في إطار من الاعتراف المتبادل بالخصوصيات المعتقدية الشاملة للأديرة والكنائس والمساجد والمحاكم والأوقاف والمواريث والعبادات والمعاملات الأهلية، إضافة إلى الأحزاب الدينية والطائفية والشيوعية والقومية على أنواعها...
وكما تعمل العلمانية، عندنا وعند غيرنا، من دون استئصال للطائفية والطوائف، تفترض الديموقراطية أيضاً اعترافاً واحتراماً للخصوصيات المجتمعية على اختلاف عقائدها وأحزابها وهيئاتها ومذاهبها. وهاتان العلمانية والديموقراطية تتنفسان، عندنا، من رئة الطائفية. ذلك أن الطائفية السياسية، إذ لا تحتكم إلى الدين في آلية عمل مؤسساتها، تتماهى مع العلمانية وتغدو وجهها اللبناني الخاص. والديموقراطية، إذ تقوم على توازن القوى والمذاهب، تأخذ من العلمانية بعدها المجتمعي وتتماهى معها في سياق الاعتراف بالتعدد والتنوّع، كما في سياق الحرية الناشطة بإسراف في وسائل الإعلام والثقافة والسياسة والاقتصاد والأخلاق... وبالتالي، يحمل الاقتراح العلماني ثغراً تفصيلية تتحدى الطوائف في مجملها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأحوال الشخصية، من دون أن تهدّد العلمانية الطوائف في وجودها وتمايزها، إضافة إلى أنها، في جوهرها، لا تختلف عن الطائفية السياسية ولا تشكل إطاراً بديلاً عنها. قد تكون حلماً أو رؤية أو علاجاً بقدر ما قد تكون وهماً لا أكثر ولا أقل.
وهذا يعني أن الطائفية تتضمن، رغم أنفها، أو بطبيعتها التكوينية، العلمانية والديموقراطية معاً. فالدولة تستوي على الهيمنة أو الشراكة، لا على الغلبة أو الاستتباع. ذلك أن الغلبة تضع الدولة بكاملها في نصاب طائفة أو حزب أو قبيلة أو عائلة، بينما الهيمنة تشترط وجود مشاركة ما للآخرين في حصص الدولة ومناصبها في ظل احتكار للقرار والثروات وامتيازات في المواقع. وبعبارة أخرى، تعمل الطائفية على قاعدة برأسين: إما أن يأكل الجميع بمقادير متساوية، وإما أن تأكل طائفة أكثر مما تأكل الأخرى. وإلى هذه القاعدة المزدوجة الرأس، ترجع الطائفية في أصولها وفصولها، بتوافق الطوائف وصراعاتها الأهلية، بقدرتها على إبقاء الدين خارج الدولة وترك أمره للمجتمع، يأخذ منه ما يريد ويترك ما يريد.
لذلك، لا يوجد في لبنان طائفة تحكم بالمطلق وتؤول الدولة لها وحدها من دون سواها. كما لا توجد عصبية سياسية تحيل العصبيات الأخرى إلى أصفار أو تزجّ بها في السجون، وإن كانت بعض الطوائف والعصبيات ترغب في ذلك وتشتهيه، فإذا اندفعت في رغبة كهذه وصلت إلى الحرب الأهلية. وهذه الأخيرة، كانت ولا تزال، تشكل تمظهراً تاريخياً ودموياً لاختلال المعادلة المذكورة، حيث تحفظ الطائفية حراك الطوائف بين حدود الهيمنة أو الشراكة أو الاستضعاف، مثلما تشكل اتفاقات السلم الأهلي ومواثيقه استراحة للمحاربين واستعدادات خلفية للانقضاض على المعادلة نفسها، طالما أنها لا تخلق مناخاً يساعد على تخفيف الفرز الطائفي، ولا تنتشل الأحزاب اللاطائفية من هزالة تمثيلها ودورها، ومثلها الهيئات الثقافية والنوادي الرياضية وجماهيرها. وطالما أنها لا تعمل على إخراج الأحزاب والزعماء من طوائفهم ومذاهبهم، ومثلها الكتاب والمدرسة والجامعة والجريدة والتلفاز... والحليف الإقليمي والدولي.
قد تبدو هذه الملاحظات دفاعاً عن الطائفية السياسية، بيد أنها لا تعدو كونها توصيفاً صادقاً ومؤلماً لأصلها وفصلها ومآلها. وكما يحتاج المرض إلى تشخيص دقيق يسبق العلاج ويحدّده، كذلك الطائفية بحاجة إلى توصيف دقيق يساهم في توضيح سبل الخلاص منها. فلا يكفي توصيفها بأيديولوجية يصطنعها الأعيان لمنافعهم الخاصة لكي نفهم علّتها وآلية عملها، ولا تكفي العلمانية كعلاج للطائفية لأنهما وجهان لعملة لبنانية واحدة.
* باحث وأستاذ جامعي