روجيه نبعة *
يتأسّس الخطاب السياسي في لبنان على خلط مفاهيمي للمصطلحات تصل إلى درجة استعمال المفردات في غير موقعها الصحيح، وتُبنى المواقف السياسية والأيديولوجية على أساس هذا الغموض. في هذا السياق، كان من الضروري إزالة اللغط الطارئ على مفهوم وتعريف الطائفة التي غالباً ما يُشار إليها خطأً بقصد التعبير عن الملّة، وهما مفهومان وإن تشاركا الكثير من الخصائص، يظلان مستقلين لا يجوز اعتبارهما مرادفين لمعنى واحد.
يحيلنا مصطلح الطائفة في لبنان إلى نوعين من الحقائق، يجدر التفريق بينهما بغية بلوغ أقصى درجات الوضوح:
ــ حقيقة اجتماعية أنثروبولوجية تاريخية تعود الى نمط تنظيم وإنتاج يعتمده فريق من الناس.
ــ وأخرى سياسية تستند على نظام لتوزيع السلطة السياسية داخل الدولة.
إذا كان الشرط الأوّل ضرورياً لاعتبار مجموعة معيّنة من الأفراد طائفةً تملك شروط البقاء والاستمرارية في التاريخ والجغرافيا، فهو ليس كافياً البتّة لإضفاء صبغة سياسية على الطائفة، ذلك لأنّ الانتقال من الأنثروبولوجي الى السياسي لم يكن يوماً (ولن يكون) ميكانيكيّاً.
بناءً على هذه الفرضيّة، ليست الغالبية من الطوائف اللبنانية طوائف سوى من باب المعطى الأنثروبولوجي. فقط أربعة منها بلغت مرتبة الطائفة السياسية، وهي بحسب ترتيبها التاريخي: ــ المارونية والدرزية: من خلال نظام القائمّقاميّتين (الذي عُمل به بعد الحرب الأهلية عام 1842) ونظام المتصرفية (الذي أُرسي بعد حرب الـ1860) وعهد الانتداب والاستقلال والميثاق الوطني.
ــ السنّية مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، وأخيراً ــ الشيعية مع حركة الإمام موسى الصدر في ستينيات القرن الماضي والثورة الإسلامية في إيران، ووصلت ذروة مأسسة الطائفة الشيعية مع تغطيتها الكاملة لمداها الجغرافي الطبيعي بعد أن تحرّرت من كل سلطة غير سلطتها (فترة ما بين 1982 ـــ 2000) حتّى تاريخ انتشار الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة المعزّزة في الجنوب عام 2006.
* «الملّة» أو الطائفة في مستواها الأنثروبولوجي:
تمكّنت بعض الطوائف من خلق كتلتها البشرية المؤلّفة من أفراد يسعون للعيش معاً بمعزل عن جيرانهم. تقوم فرادة هذه الطوائف على جمعها لمبدأين جعلاها على مرّ تاريخ نزاعي طويل، طائفةً «مكتملة العناصر»: مبدأ التنظيم الاجتماعي معطوف على مبدأ تكوين الهوية الخاصة على كافة الصعد. ينبع الأوّل من «العصبية الخلدونية»، لكنّها عصبية تتخطّى عامل القربى العائلية التي وُلِدت في المجتمعات الصحراوية البدوية لتشمل العصبية الثانية التي درس منها ابن خلدون أنموذجين: المدينية منها من جهة، والأخرى الخاضعة للسلطة المركزية القوية. إنهما شكلان من العصبية يستبدلان قرابة الدم، كعنصر لحمة بين الأفراد، بعنصر الزبائنية.
أمّا العنصر الثاني فهو من خاصيات الدين الذي يبقى المكوّن التعريفي الأهم للطائفة. أمّا بما يختصّ بالذاكرة التاريخية للطوائف اللبنانية، فهي مثقلة بالنزاعات والمجازر والتهجير السكاني المتبادل والإهانات والإذلال...وهي نزاعات كان شعارها دينياً، لكن ذلك لم يمنع من تقاتل مجموعات من الديانة الواحدة (مسيحيون ضد مسيحيين، مسلمون ضد مسلمين) أكثر من تلك التي واجهتها مجموعات من ديانتين (مسيحيون ضد مسلمين).
انتظم هذا المكوّن التأسيسي لكلّ الطوائف تحت شكل اجتماعي سُمّي «ملّة» في العهد العثماني، تحوّلت إلى طائفة بعد أن استوعبت العنصرين المذكورين أعلاه في تكوينها من خلال:
ــ تنظيم اجتماعي زبائني وأحياناً عائلي على امتداد مساحة جغرافية محدَّدة.
ــ تنظيم اقتصادي يقوم على قنوات مالية، تعاونية، عائلية وتبادلية.
ــ ذاكرة دينية اضطرّت أحياناً أن تقلّل من قيمة نزاعاتها مع الجيران الذين اضطرّت أن تشاركهم الأرض أو حتّى أن تخضع لسلطتهم.
ــ رموز تاريخية، أساطير مؤسِّسة، ذاكرة مشتركة وشعائر دينية...
ــ هوية دينية موحّدة.
* «الطائفة الكبرى»: من الملّة على الصعيد الأنثروبولوجي إلى الطائفة على المستوى السياسي
لا تكمن «الجدّة» في النظام السياسي اللبناني خلال سيرورة تحوّله الصاخب من الأمبراطورية العثمانية إلى نظام طائفي مستقل، في استمرارية موقع الملل فيه، بل تكمن في أنّ البعض القليل منها بلغ درجة سياسية لم يكن يحتلّها سابقاً، ما خوّل هذه القلة أن تتحوّل الى «طوائف كبرى» نسبةً لدورها السياسي المتعاظم على الساحة اللبنانية، وهو ما كان مستحيلاً خلال الحكم العثماني. هكذا بات لبنان ما بعد الاستقلال يتألّف من نوعين من الطوائف: الملل والطوائف. صحيح أنّ الملل ما زالت تتمتّع باستقلالية داخلية مطلقة على نظام أحوالها الشخصية وشؤونها الذاتية وأوقافها ومدارسها (وهو ما كان الباب العالي يوفّره لها)، بدون تدخّل من سلطات الدولة أو الطوائف الأخرى، إلا أنّ كل ذلك لا يجعل من تلك الملل سوى طوائف على الصعيد الأنثروبولوجي ولا يُكسبها صفة الطائفة السياسية.
إنّ الطوائف الكبرى لا الملل هي التي كتبت وما زالت تكتب تاريخ لبنان ما بعد الاستقلال حتى اليوم. من هنا نستطيع أن نحدّد معياراً واضحاً يفصل بين الملّة والطائفة في دولة ما بعد الاستقلال؛ فالملل هي الطوائف التي لم تتمكّن من فرض غلبتها، ما جعلها مستتبَعة سياسياً بعدما تخلّى نسيجها السياسي والاجتماعي عن حلم فرض تلك الغلبة على الملل الأخرى. أمّا والحال كذلك، فقد لجأت تلك الملل الى حماية الدولة، أو غالباً الى حماية طائفة أخرى. من هنا نسمّي تلك الطوائف مللاً، ونحصر كلمة طائفة بالطوائف الكبرى الأربع في لبنان.
أمّا الفضل في اكتمال «نضج» بعض الطوائف من دون سواها، فيعود أوّلاً إلى لاعبِين خارجيين، إقليميين يتبادلون الأدوار بحسب التغيّرات السياسية الكبرى (مصر الناصرية، سوريا، منظّمة التحرير، إسرائيل، السعودية، إيران...)، ودوليين (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد السوفياتي...). إذا كان تعريف الطائفية يُختصر بـ«نظام اجتماعي ـــ سياسي للحكم يتمّ من خلاله توزيع السلطة»، فمن الأجدى أن نضيف الى هذا التعريف خاصية لبنانية وهي أن تلك السلطة تتوزّعها حصراً الطوائف الأربع الكبرى بما يتناسب مع الحجم الذي تمثّله محلياً، كما مع مستوى قدرتها على فرض غلبتها، وهو العامل الذي يحدّده حجم الدور الذي يلعبه الحامي الأجنبي على مساحة رقعة الشطرنج الإقليمية والدولية.
* كاتب لبناني