زينب جمعة *
اقتضت الطبيعة الهشّة للكيان اللبناني، أن يُعاد النظر في توازناته، بل وفي أصل تكوينه، عدة مرات منذ الاستقلال حتى اليوم. فكلّما مرّ عقد ونصف عقد أو عقدان، تعرّض لبنان لأزمة حادّة تطرح في كل مرة سؤال الهويّة والوجود... وهذا لعمري شأن فريد في تاريخ الدول والكيانات السياسية!
وعلى الرغم من سلبيات هذا الاهتزاز الدائم للصيغة اللبنانية أو للأسس التي قام عليها لبنان، الذي يؤدي الى عدم الاستقرار في جميع مناحي حياة اللبنانيين، بدءاً من الوضع السياسي والأمني ووصولاً الى الوضع النفسي، الكثير من جيراننا العرب يغبطنا على وضعنا هذا، لأنه يشكل عنصر حراك سياسي قد يؤدي الى إعادة تشكيل الوطن كما يشتهي أبناؤه... والمسألة طبعاً ليست بهذه البساطة، لأن طبيعة الكيان الهشّة تفسح المجال للتدخل الخارجي الذي يمارس التحكم في الخيارات السياسية والاقتصادية للدولة اللبنانية. وهذا ما حصل عام 2005 إثر اغتيال الرئيس الحريري، حيث خُطّط بواسطة هذا الاغتيال لجرّ البلاد الى مكان آخر، وتغيير الخيارات الاستراتيجية للبنان من مقاومة اسرائيل الى الانخراط الكامل في المشروع الاميركي ــ الاسرائيلي والقضاء على المقاومة ونزع سلاحها. هذا هو جوهر حركة 14 آذار، ولكن آلاف المواطنين الذين نزلوا الى الشارع آنذاك، لم يكونوا يستبطنون هذا الهدف في تحركاتهم، بل كانوا يحلمون بوطن أفضل وظنّوا أنها اللحظة المناسبة لتحقيق هذا الحلم، وحصول التغيير... فوجئوا في ما بعد أن ما حصل لم يكن سوى تغيير وهمي، اقتصر على خروج الجيش السوري من لبنان، أما البنية السياسية والاقتصادية للفساد فبقيت سالمة ولم تصب بأذى! المفارقة كانت أن ثورة الأرز حصلت ضد حكومة الرئيس عمر كرامي ووزير ماله الياس سابا اللذين شكلّا درعاً حصيناً ضد هدر المال العام، وجاءت «الثورة المظفّرة» بالطاقم القديم الذي حكم منذ التسعينيات من خلال سياسات اقتصادية خاضعة لوصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الصادرة عما يسمّون «مخربي الاقتصاد الأميركيين»، كما بيّن الفيلم التسجيلي «الانهيار» «Breakdown» للمخرجة الاميركية ــ البريطانية جوان تكر، حيث عرّف أحدهم عن نفسه بأنه «مخرب اقتصادي» وظيفته تخريب اقتصادات الدول المستهدفة بـ«الرعاية الأميركية» وإغراق هذه الدول بالديون الباهظة التي تعجز عن سدادها ويبدأ حينئذ الابتزاز الأميركي الذي يكون مقدمة للسيطرة على هذه الدول... وذكر أمثلة عديدة عن الدول التي عمل على تخريب اقتصادها في أميركا اللاتينية، وعندما تفشل هذه السياسة الاقتصادية في تحقيق أهدافهم، يعمد المخططون الأميركيون الى سياسة يسمونها «بنات آوى» «Jackals» وتعني إثارة الفتن والقلاقل، وارتكاب عمليات الاغتيال لشخصيات مهمة يؤدي قتلها الى تقريب الأميركيين من تحقيق أهدافهم، كما يذكر أحد العاملين في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في الفيلم المذكور.
وهذا السيناريو هو الذي حصل تماماً في لبنان، فالمسألة إذاً ليست مجرد معارضة مقابل موالاة، بل صدام بين مشروعين: المشروع الأميركي الذي يريد جر لبنان سياسياً الى الحظيرة الاسرائيلية، وجره اقتصادياً الى سياسات صندوق النقد الدولي والعولمة الظالمة، وجره اجتماعياً الى المزيد من تهميش الطبقات الفقيرة وتكريس هيمنة الأغنياء الجدد وأثرياء الحرب والحيتان المالية الكبيرة على مفاصل المجتمع كافة. والمشروع الآخر قوامه مواجهة المشروع الأول من خلال مقاومة العدو الاسرائيلي ومجابهة الهيمنة الاميركية على لبنان ومفاعيل تلك الهيمنة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
بناءً عليه، التغيير المطلوب اليوم في لبنان، لا ينبغي أن يكون سطحياً أو مقتصراً على جانب دون آخر... إنها فرصتنا اليوم لاجتثاث بنية الفساد التي تفشت في الجسد اللبناني طوال السنوات الماضية، وللتأسيس لممارسة سياسية نظيفة لا تخضع للوصايات الخارجية، ولسياسات اقتصادية سليمة قائمة على تشجيع الانتاج الوطني الزراعي والصناعي لا على الاقتصاد الريعي وبيع البلد للمستثمر الأجنبي وعلى توفير الدولة الماء والكهرباء والهاتف لكل المواطنين لا بيع مرافق الدولة وخصخصتها، فضلاً عن توفير البيئة النظيفة والمساحات الخضراء... وهذه أبسط حقوق المواطن في القرن الواحد والعشرين.
* كاتبة لبنانية