كمال سنجقدار *
(رداً على إفتتاحية جوزيف سماحة في جريدة الأخبار بتاريخ 19/12/2006 تحت عنوان «لبنان: الصراع الطبقي حتى نهايته... الطائفية»).

يبدأ سماحة مقالته بالجملة التالية: «كان كارل ماركس يقول إن بريطانيا هي البلد الذي يذهب فيه الصراع الطبقي إلى نهايته». بغض النظر عن صحة نسبة هذا القول إلى ماركس (لرأي مغاير في هذا الموضوع انظر مقالة وسام سعادة في السفير بتاريخ 20/12/2006) فأبسط ما يقال فيه هو أنه لم يكن صحيحاً على الإطلاق لأن الصراع الطبقي في بريطانيا لم يصل إلى نهايته.. الماركسية على الأقل. يبدو أن البعض يعتبر أن الاستشهاد بماركس يضفي صدقية على طرح ما حتى عندما يكون خطأ ماركس في هذا المجال واضحاً كعين الشمس.
بعد استحضار ماركس، يضيف سماحة «هل يمكن القول عن لبنان إنه البلد الذي يذهب فيه الصراع الطبقي حتى نهايته... الطائفية؟! يخطر هذا النوع من «التزوير» في البال عند متابعة ما يقول أركان حركة 14 آذار وإعلامها عن الاعتصام المفتوح في وسط بيروت». ما يقصده الكاتب هنا ليس شديد الوضوح ولكن بالإمكان بالاستناد إلى ما يرد في بقية المقال، إعطاءه التفسير التالي: إن الصراع الدائر في لبنان هو ذو جوهر طبقي تزوّره حركة 14 آذار وإعلامها وتأخذه إلى «نهايات طائفية». ولكن ما هي الدلائل التي يقدمها سماحة على أن جوهر الصراع طبقي؟ الجواب لا يمكن أن يكمن في طبيعة الجمهورين المتقابلين. فكما يقول سماحة نفسه «الجماهير التي تلبّي نداءات الموالاة وتنتصر للحكومة هي تماماً من طينة الجماهير التي تلبّي نداء المعارضة في الوسط التجاري (...) الوجوه نفسها، السحنات نفسها، الملابس نفسها». لكن يعزو سماحة قدرة الحكومة على حشد الطبقات الفقيرة إلى قدرتها على تجييش «العصبية (السنية) المذهبية». ولكن ما هي الدلائل على أن العصبية المذهبية لا تؤدي الدور نفسه في الطرف المقابل، على الأقل في الجزء الشيعي منه وهو الغالب؟ هل من الصدف البعيدة عن الانتماء المذهبي أن يكون فقراء الشيعة مع المعارضة وفقراء السنة مع الحكومة؟ إلى متى سيصرّ قدامى وحديثو الفكر الماركسي على إسقاط التحاليل الطبقية على واقع يصرخ بخلاف ذلك؟ يبدو أن الواقع يُصر على إخفاء الجوهر الطبقي لصراعاته، لكن هذه الحيلة لا تنفع مع الماركسيين.
ربما يعتقد سماحة أنه على الرغم من أن طبقية الصراع لا تترجم في طبيعة الجماهير لكنها موجودة في طبيعة مطالب الفريقين. لكن مواضيع الخلاف بين الطرفين لا تدل على ذلك: فليس تحرك المعارضة تحركاً مطلبياً ولا قائدها السيد نصر الله رمزاً نقابياً ولا شعارها «الوحدة الوطنية» شعاراً معيشياً ولا وصفها للحكومة الحالية بـ«حكومة فيلتمان» له علاقة من قريب أو بعيد بالضمان الاجتماعي أو بالحد الأدنى للأجور. إن شعارات المعارضة مرتبطة بشكل أساسي بمقولة أن هذه الحكومة هي حكومة متواطئة على مشروع المقاومة.
في سياق مقولة الطبيعة الطبقية للصراع الدائر يلفت سماحة النظر إلى بعض الانتقادات ذات الطابع الطبقي المتشاوف التي يوجّهها بعض أنصار الموالاة ضد جمهور المعارضة. يعتقد سماحة أن مثل هذه الانتقادات لا تصدر إلا عن «بورجوازي صغير مضطرب (...) يرغب في تقليد من هم «فوق» (...) فهذا ليس سلوك البورجوازي التقليدي ولا حتى «ابن العائلة» السوي. إنه أقرب إلى سلوك الثري الجديد».. كما في السابق لا يورد سماحة أي دليل على تحليله الطبقي هذا. طبعاً لا دراسة إحصائية يقدمها سماحة عن السمات الطبقية لمنتقدي جمهور المعارضة. ولكن بعيداً من الدراسات واستناداً إلى الوقائع فإن سماحة مخطئ هنا أيضاً. فوليد جنبلاط هو الذي تحدث عن «ثقافة الموت» ونُسب إلى الشهيد جبران تويني وصفه للجمهور الآخر بـ«الغنم» وتحدث الشهيد بيار الجميل عن «الكمية والنوعية». على الرغم من رفضنا هذا النوع من الخطاب، ليس أي من هؤلاء «حديث النعمة» أو «بورجوازي صغير»، ولكنهم أرباب عمل وأبناء عائلات أقل ما يقال فيها أنها قديمة الثراء إن لم يكن بعضها أرستقراطياً إلى أقصى ما قد تعنيه هذه الكلمة في الإطار اللبناني.
ويحذر سماحة من هذه العقلية البورجوازية الصغيرة التي يمكن أن تشكل نواة لأحزاب فاشية كتلك التي نشأت في أوروبا في الثلاثينيات من القرن الماضي. بغض النظر عن كليشيهات التفسير الطبقي الماركسي لولادة الأحزاب الفاشية في أوروبا فإن شعارات تلك الأحزاب التي توجهت بها إلى جمهورها مبنية على قضايا كـ«العزة القومية» و«الكرامة الوطنية» و«استعادة الأمجاد» و«المواجهة العسكرية للأعداء الخارجيين»... من الواضح أن هذه الشعارات هي في صلب خطاب المواجهة القومية الإسلامية التي هي بدورها في صلب مشروع المعارضة. إن رواج مقالة سماحة في بعض الأوساط اليسارية مردّه على الأغلب إلى رغبة هذه المجموعات في تبرير السير في ركاب حزب ديني كحزب الله وذلك عبر زعم وجود جوهر طبقي للمواجهة الحالية في لبنان. هذه الرغبة لدى اليساريين لتبرير تحالفهم مع أعداء تقليديين لهم قد تفسر هذا النوع من «التزوير» (لنستعير عبارة سماحة نفسها) الذي يلجأ له هؤلاء اليساريون.
في رأينا أن التحالف مع قوى إسلامية يجب أن لا يشكل بحد ذاته إحراجاً لتيارات يسارية أو غيرها فلا ضير مثلاً بأن تتحالف قوى يسارية في تركيا مع الأحزاب الإسلامية الحاكمة هناك التي أثبتت مقدرتها على التعاطي مع التحديات الداخلية والخارجية بشكل منفتح لا يضع تركيا في مواجهة مع معظم العالم، ما جعل الأخيرة أقرب ما تكون من أي وقت مضى إلى الانضمام كأول دولة مسلمة إلى الاتحاد الأوروبي. إن المشكلة الأساس في توجهات حزب الله وتيارات أخرى دينية وقومية في المنطقة هي أنها اتخذت من المواجهة مع الغرب عنواناً رئيساً لها. إن هذه المواجهة في رأينا لن تفضي إلى مشاريع نهضوية تحديثية إسلامية كانت أو يسارية أو قومية، بل على العكس، هذه المواجهة، حتى لو انتصرنا فيها أو في أجزاء منها، قد تمنع بحد ذاتها مشاريع النهضة تلك. لكن الدفاع عن هذه المقولة يحتاج الى مقالة أخرى.
* كاتب لبناني