نجيب نصر الله
الإعلان الإسرائيلي، شبه الرسمي، عن خسارة الحرب التي استهدفت لبنان لا يأتي بجديد. والتقرير الصادر أخيراً عن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، على أهميته، لجهة تكريسه الاعتراف بالهزيمة اللبنانية، وتالياً العربية، يحاول هو الآخر، شأنه في ذلك شأن السجالات الداخلية المعلنة، القول إن سبب الهزيمة ينحصر في سوء الأداء العسكري الناتج من فقدان التنسيق أو ضعف التحضيرات وغيره من الأسباب ذات الطابع التقني البحت. المعنى العميق لهذا الإصرار على حصر أسباب الفشل بذرائع تقنية ولوجستية سببه الوحيد محاولة صون سمعة السر الإسرائيلي الأكبر الذي تمثله المؤسسة العسكرية. هذا السر الذي يختصر إلى حد كبير استمرار وجود الدولة الإسرائيلية، ويمنحها المعنى الفعلي، الذي من دونه تفقد بعضاً أساسياً من قيمتها ووظيفتها شبه الوحيدة، وهي الوظيفة التي أملت تاريخياً قيامها وتُملي اليوم الحفاظ عليها.
منذ وضع الحرب الأخيرة لأوزارها، والمجتمع الإسرائيلي تتجاذبه الأسئلة، التي إن انحصرت في مهمة تعيين الأخطاء المباشرة التي قادت إلى الإخفاق الكبير، فإنها في استمرارها وارتفاع وتيرتها ما يشي بحقيقة أنها تنطوي على ما يتعدى هذا المستوى، ليصل ربما إلى ما هو أبعد. إلى سؤال الدور والوظيفة. التقرير هذا، الذي يتسم بجدية ما، قياساً بالشهادة التى أدلى بها رئيس الأركان دان حالوتس، هو الحدث الإسرائيلي الأهم الذي سيؤجج حدة السجال المندلع، وسوف يحتل موقعاً أساسياً في رسم وجهة النقاشات المرشحة للتصاعد.
التقرير الذي يقر بفشل الحرب الأخيرة لن يكون بلا تداعيات. إنه يعين النقطة التي ينبغي للنقاش أن ينطلق منها. إسرائيل كانت، ولا تزال، في جوهرها ثكنة عسكرية غربية متقدمة. وانطلاقاً من هنا، فإن التركيز (السجالات والتقرير) على المسؤوليات الإفرادية عن الهزيمة يهدف إلى طمس المعنى الأعمق. فالاعتراف المباشر بتضرر المعنى العسكري للوجود الإسرائيلي هو ضربة للأساس الذي تقوم عليه إسرائيل. التقرير على نواقصه الأكيدة، هو التعبير عن المعنى التأسيسي للانتصار اللبناني الصريح والحاسم، الذي يتعدى المعنى العسكري المباشر، ليطال معاني سياسية وثقافية سكنت الوعي العربي طويلاً، وهي معان يُعتد بها في ميزان القوى الراجح إسرائيلياً.
ربما كانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي تنفرد في كون مؤسستها العسكرية، أي الجيش وما يتفرع عنه من أجهزة، تمثل الأساس شبه الوحيد للدولة. فالجيش في إسرائيل هو أُم المؤسسات وأبوها. منه وعنده تبدأ الأمور وتنتهي. يكاد أن يكون الممر الإجباري للطامحين إلى حيازة أدوار القيادة السياسية المباشرة وغير المباشرة، أو حتى سلوك سبل الترقي الاجتماعي. الحضور الطاغي الذي يجسده الجيش في المشهد السياسي الإسرائيلي، يكاد أن يختصر الدولة. من هنا فإن الحرص على أوضاع هذه المؤسسة وصورتها، يرتدي أولوية تكاد تكون مطلقة. إنه حجر أساس الدولة الإسرائيلية.
البناء على هذه الأولوية شبه الوحيدة، الذي استند إلى دواعي وعي ذاتي عميق للدور العدواني، ولقسرية الوجود المادي في قلب الجغرافيا العربية هو ما طبع المراحل التكوينية الأولى، التي فرضت وتفرض اللجوء الدائم إلى تبني وإعلاء قيم سياسية وأخلاقية محددة، تبدو اليوم، أكثر من أي وقت مضى نافرة مع مفهوم وتعريف الدولة القادرة على الديمومة. الشرط الإسرائيلي للوجود، وهو شرط «القاعدة العسكرية الحصينة»، ألمشروط بدوره، بوظيفة المخفر الأمامي للقوة التي تمسك بالعالم، تطلّب منذ البدايات التعويل على امتلاك التفوق العسكري والبناء عليه. الشرط هذا، الذي أنتج دولة ذات بعد واحد، والمتجسد في بنية عسكرية منتحلة لصفة الدولة، لم يعد قائماً، وهو مبعث القلق العميق الذي يعيشه النظام العربي الرسمي الذي يحاول جاهداً النيل من المقاومة اللبنانية، متوسلاً الفتنة المذهبية التي تجيدها بعض الصنائع اللبنانية.