strong>ليلى نقولا الرحباني *
في 14 شباط 2006 طالعنا الوزير وليد جنبلاط بجملته الشهيرة: «بدنا التار، بدنا التار، من لحود ومن بشار»، وها هو اليوم وفي أقل من اسبوعين يطلق تهمه على حزب الله بالقيام ببعض الاغتيالات، ويعيد التذكير بحقه في الثأر لوالده الراحل «المعلم كمال جنبلاط» الذي استشهد في 16 آذار 1977، ويتحفنا في الوقت نفسه بالقول إن «لبنان، هذا البلد الديموقراطي والمؤهل للانضمام الى العالم الحر بكل مرتكزاته السياسية والثقافية، يتعرض لمحاولة خطف مشبوهة تريد إعادته قروناً الى الوراء»، وفي مكان آخر يقول: «يا لها من مفارقة، إنه في القرن الحادي والعشرين يُحاصر لبنان البلد الوحيد في الشرق الاوسط المؤهل للانضمام الى العالم الحر، من قوى الظلام والكراهية، فهم يكرهون حتى مدينتهم بيروت، قوى تنتمي الى ثقافة الموت، هم يسمونها شهادة، أنا اسمّيها ثقافة القتل... يا لها من مفارقة، انه في القرن الحادي والعشرين يُجر لبنان الى القرن الحادي عشر».
وهنا لا بد من وقفة للمقارنة بين «الآخرين» الذين يريدون إعادة لبنان الى الوراء، الى القرن الحادي عشر، وبين «وليد بك» وحلفائه الذين يعدون اللبنانيين بالتقدم والرقي وثقافة الحوار والسلام والديمقراطية، والدخول في القرن الحادي والعشرين. والأهم لمعرفة ما هي هذه الظاهرة «الحضارية»، ظاهرة «الأخذ بالثأر» التي يدعو اليها الوزير وليد جنبلاط؟
تعدّ ظاهرة الثأر من العادات المتوارثة من العصر الجاهلي، والـــــــــــــتي كانــــــــــت سائدة قبل انتشار قواعد الشعوب «المتمدنة» التي تعطي القضاء والمحاكم الحق الحصري بإحقاق العدالة والاقتصاص من المجرمين، وقبل أن تعمّ تعاليم الاديان السماوية السمحة، حيث أوصت التعالــــــــــــيم المسيــــــــــحية بالتسامح والمحـــــــــــبة وعدم القتل، وأتى الاسلام أيضاً ليقضي على هذه الظاهرة ويشرّع القصاص ويقول «بتطـــــــــــبيق العدل الذي يقوم به ولي الأمر».
الأخذ بالثأر ظاهرة قديمة مستمرة ومتجذرة في المجتمعات القبلية، وفي الأعراف والعادات والتقاليد التي تسيّر شؤون الحياة فيها، وهي تحولت في العصور الجاهلية إلى نمط حياة متكامل وثقافة اجتماعية لا يجوز التنازل عنها لدى العديد من العائلات، وحيث كان الإقدام على الأخذ بالثأر يُعد واجباً مفروضاً، ويمثل عقيدة راسخة داخل وجدان كل فرد من أفراد القبيلة مهما بلغت درجته. وبالرغم من التطوّر الذي شهده المجتمع القبلي في مختلف المجالات الحياتية وعلى مدى السنين، لم يمنع ذلك هذه المجتمعات من استمرار اعتناق فكرة الأخذ بالثأر أسلوب حياة، فما زال أفرادها ينظرون اليه على أنه الضمانة الرئيسية لجلب الحقوق أو صونها، وهناك مثلٌ شعبي شائع يجسّد مدى اعتناق هذه العادة السيئة هو «التار ولا العار».
يرى علماء الاجتماع أن ظاهرة الأخذ بالثأر لها شروطها ومواصفاتها، فهي تفترض أن العائلات ــ الاعداء التي يتربص بعضها ببعض للأخذ بالثأر لا تتحالف مهما كانت الاسباب، ولا تهادن بعضها، ولا تنتظر حوالى ثلاثين سنة كما تعامل الزعيم وليد جنبلاط مع قضية اغتيال والده، ذلك أن قائد الشرطة القضائية الاسبق العميد عصام أبو زكي كشف في احدى مقابلاته التلفزيونية، أن التحقيق في قضية اغتيال الشهيد كمال جنبلاط توصل الى كشف الجناة بعد أقل من اسبوع على الجريمة، وأن «وليد بك» كان على علم تام بتفاصيل التحقيق، وبكل الوقائع والأدلة منذ ذلك الحين. لكن الوزير جنبلاط طلب عدم إثارة الموضوع وطواه حفاظاً على «علاقته الجيدة بالسوريين». ويضيف أنه «التقى وليد جنبلاط بعد أربعين يوماً من الجريمة في بيروت، فأبلغه الأخير «أنه سيذهب الى سوريا، ليصافح اليد التي قتلت والده».
في اللحظات الاولى لاغتيال «المعلم كمال جنبلاط»، توجه الثأر الجنبلاطي الى المسيحيين، والآن بعد أن انسحب السوريون من لبنان وبعد ثلاثة عقود، تتوجه نزعته الثأرية لهم عوض أن يطالب بمحاكمتهم. ولا ندري فقد تعود النزعة الثأرية لدى جنبلاط قروناً الى الوراء، فيحاول «وليد بك» أن يثأر لبشير جنبلاط من بشير الشهابي، إذ كثيراً ما عبرت مواقف الزعيم الدرزي عن نزعة لديه لتقمص شخصية بشير جنبلاط، فسنوات طاحنة من الحرب بعد عام 1982 راح ضحيتها آلاف المواطنين، ودمرت مئات القرى، وكان لها تداعياتها الاقليمية والدولية، حيث رحلت القوات الاطلسية عن لبنان، وسقط اتفاق 17 أيار... لم يرَ فيها وليد بك إلا قضية واحدة اختصرها بكلمات معدودة: «ها قد عدنا يا بشير». تلك كانت الصيحة الاولى التي أطلقها في قصر المير بشير في بيت الدين حين احتفل بانتصاره في «حرب الجبل» معلناً انتزاع القصر من المير بشير الشهابي ثأراً لبشير جنبلاط. ولم تتوقف نزعة الثأر لديه يومها عند هذا الحد، بل راح يبحث عن سبل لاستعادة الأراضي التي انتزعها بشير الشهابي من بشير جنبلاط، فامتدت أنظاره الى سهل البقاع، مستملكاً العديد من العقارات في البقاع الغربي باحثاً عن طريق تصله بوادي التيم، آملاً، ربما، في تحقيق حلم طالما سعى بشير جنبلاط لتحقيقه: أن يرى نفسه على رأس إمارة تضم دروز المشرق العربي جميعاً.
الحقيقة أن المواقف المتقلبة للنائب وليد جنبلاط، وتحالفاته التي تتبدل بين ليلة وضحاها، ومحاولات الثأر لديه لا يمكن فهمها بمعزل عن الإرث السياسي للدروز وللزعامة الجنبلاطية تحديداً منذ بدايات القرن التاسع عشر على الاقل، إذ عادة ما يقوم جنبلاط باستحضار مآس أو «كربلائيات» من الذاكرة الجماعية الدرزية لتغطية مواقف سياسية تعبّر عن مصالح شخصية آنيّة يريد تحقيقها عبر عملية تهييج جماهيري. ففي الصراع مع الموارنة يستحضر «كربلائية» بشير جنبلاط وحرب 1860، وفي الصراع مع السوريين يستحضر «كربلائية» كمال جنبلاط، وفي الصراع مع القوى السياسية الاخرى داخل الطائفة الدرزية يستحضر «كربلائية» ثورة 1958، وأخيراً، عندما أصبح الشيعي هو العدو المحلي في نظر الزعيم، عاد يقلب صفحات التاريخ بحثاً عن «كربلائية ما» تفسر عداءه للشيعة. ونظراً لانتفاء هذا النوع من «الكربلائيات» واقعياً، وإذ لم يؤدّ اظهار «التفوق العددي» الى النتيجة المرجوة للتهييج الجماهيري، أضاف جنبلاط «كربلائية» اغتيال الرئيس رفيق الحريري للتعبئة درزياً وسنياً في وجه حزب الله.
لقد نجح جنبلاط في تسيير معظم الدروز الجنبلاطيين وفق مصالحه الضيقة وتحالفاته الطبقية بوصفه أحد أبرز الإقطاعيين و«حيتان المال» في هذا البلد (على حد تعبيره)، والمفارقة أن هذا الاقطاعي المتحالف مع الرأسمالية المتوحشة يتلقى دعماً من الاشتراكية الدولية والاوروبية بعد أن بدأت رياح «الديموقراطية وحقوق الانسان» تعصف به.
هذا هو مأزق الموحدين الدروز في لبنان اليوم: احدى أكبر قياداتهم السياسية متقلبة لا تعرف الثبات، وتعمل على ادخالهم في أتون الصراعات الخطيرة التي تعصف بالمنطقة، وتحاول أخذهم بعيداً عن عمقهم الحضاري والتاريخي المشرّف.
* باحثة لبنانية