غالب أبو مصلح *
في بلاد الله الواسعة، التي تحترم شعوبها وتوزع الأعباء الضريبية بعدالة، يكون للضرائب المباشرة، التي يقع عبؤها الضريبي على عاتق الأغنياء والأثرياء، حصة قدرها ما بين 70 و80% من الواردات الضريبية، ويكون للضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها الضريبي على الطبقات الشعبية والمتوسطة الدخل ما بين 20 و30% من الواردات الضريبية. ولكن في لبنان الفريد بنظامه تنعكس النسبة تماماً. فحوالى 80% من الواردات الضريبية هي من الضرائب غير المباشرة، وحوالى 20% فقط هي من الضرائب المباشرة التي يقع عبؤها على الأثرياء.
في بلاد الله الواسعة تسعى السياسات المالية إلى إعادة توزيع الدخل الوطني، عبر الجبايات والإنفاق، لمصلحة الطبقات الدنيا في المجتمع. فتنقل السياسة المالية قسماً من الثروة الوطنية من أصحاب الدخل المرتفع إلى الفقراء والطبقات الشعبية، فتقلص الفوارق الطبقية. أما في لبنان، فتعمد السياسة المالية إلى نقل الثروة، عبر الضرائب والإنفاق، من جيوب الطبقات الشعبية إلى جيوب المصارف والأثرياء. وتشكل خدمة الدين العام، الممولة في معظمها من جيوب الفقراء، مضخة هائلة لنقل الثروة إلى جيوب المصارف والأغنياء.
في بلاد الله الواسعة، تستهدف السياسة المالية معدلات فوائد حقيقية تتلاءم والدورات الاقتصادية بشكل أساسي، كما تستهدف تحقيق أعلى معدل ممكن من العمالة ــ كما يفعل البنك المركزي الفيدرالي في الولايات المتحدة والبنوك المركزية الأخرى في أوروبا واليابان كما في غيرها من البلدان. تنخفض الفوائد الحقيقية إلى حوالى الصفر أو ما دون الصفر في حالات الركود أو التباطؤ الاقتصادي، وذلك تحفيزاً للتوظيف والتنمية، وترتفع الفوائد الحقيقية إلى حوالى 4% في حال بدايات التضخم لكبح التوظيف والإنفاق واحتواء التضخم. أما في لبنان، فراوحت الفوائد الحقيقية بين 12 و18% في معظم السنوات، ما سبب شللاً شبه تام في التوظيف المنتج، فخفّض نسب العمالة، بل قضى على فرص عمل كانت موجودة في السابق، ودفع خلال حوالى عشر سنوات بمليون لبناني إلى الهجرة، إذ إن مردود التوظيف في معظم القطاعات، وخاصة في قطاعات الإنتاج السلعي، لا تصل إلى نصف الكلفة الحقيقية لرأس المال مع هذه الفوائد الحقيقية المرتفعة. فهذه الفوائد المرتفعة جداً هي لمصلحة المصارف والأثرياء، وضد مصالح قطاعات الاقتصاد الإنتاجية كافة، وضد مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير.
في بلاد الله الواسعة هناك تشريعات صارمة ضد الاحتكارات أو تكوين الاحتكارات. أما في لبنان، فالقانون يحمي الاحتكارات (حماية الوكالات الحصرية) ويشرّع للاحتكارات، حتى أصبح الاقتصاد اللبناني في جميع قطاعاته يخضع لبنية احتكارية مهيمنة، من احتكار الدواء، إلى احتكار المشتقات النفطية، إلى احتكار مواد البناء المصنّعة محلياً والمستوردة، إلى احتكار الإعلام، إلى احتكار معظم المواد الغذائية المستوردة.
هناك تناقض أساسي بين بنية هذه الطبقة وعلاقاتها وارتباطاتها من ناحية، واستقلال لبنان وسيادته وحريته وازدهاره ونموه وتطبيق الديموقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية فيه من ناحية أخرى. صحيح أن هذه الطبقة استطاعت في الماضي أن توفر نمواً غير متوازن في لبنان بين بيروت والأطراف، ونمواً غير متوازن بين قطاعات الاقتصاد، واستقطاباً حاداً للثروات، لكن تحولات عميقة في لبنان والمحيط أسقطت دور لبنان الاقتصادي التقليدي في إنتاج خدمات يحتاج إليها المحيط، وبالتالي أسقطت دور لبنان التاريخي في محيطه.
فالمحيط لم يعد بحاجة إلى وساطة التاجر اللبناني والمصرفي اللبناني في تمويل تجارته. فقد نمت بنوك عملاقة في المحيط العربي قزّمت القطاع المالي اللبناني ودوره السابق في التجارة العربية مع الخارج. أما التجارة المثلثة، فلم يبق منها غير الذكريات، إذ إن أي تاجر صغير يستطيع الاتصال، عبر وسائل الاتصال الحديثة، بأي سوق عالمي ويعقد الصفقات التجارية مباشرة من دون وسيط. ولم تعد المصارف اللبنانية قادرة، كما في السابق، على استقطاب فوائض عائدات النفط العربي وضخها إلى الأسواق العالمية، بل أصبحت الأسواق المالية الخليجية خاصةً هي الأقدر على استقطاب هذه الفوائض، وقد أخذت في اجتذاب أكبر المصارف والمؤسسات المالية العالمية، مثل سوق دبي، وتطمح أن تدخل في منافسة حقيقية مع مراكز وأسواق مالية عالمية. لم تعد الجامعة الأميركية في بيروت مقصداً للطلبة العرب، فقد نبت عدد كبير من الجامعات العربية في كل دول المشرق العربي، وانفتحت جامعات العالم الأكثر شهرة وعراقة في وجه الطلاب العرب. ولم تعد المشافي اللبنانية قادرة على استقطاب المرضى العرب، فقد أصبح لديهم الآن مشافيهم المتطورة، وانفتحوا على العالم بأسره طلباً للاستشفاء. لم يعد مطار بيروت عقدة المواصلات الجوية في هذه المنطقة. لم يعد مرفأ بيروت مرفأ المشرق العربي كما في السابق، فقد بُنيت مرافىء عديدة في الخليج كما في البحر الأحمر وفي شرقي البحر المتوسط.
لم تعد أوروبا مركز النشاط الاقتصادي العالمي والمصدر الأول للواردات العربية، بل إن مركز الإنتاج العالمي أخذ ينزاح وينتقل إلى شرقي آسيا وجنوبها، وبالتالي، أصبحت دبي وبعض الإمارات العربية الأخرى هي بوابة المشرق العربي وليست بيروت.
إن فقدان لبنان دوره التاريخي السابق بعد تغيرات عميقة في الداخل والمحيط والعالم، يفرض البحث عن دور آخر للبنان يختلف عن دوره السابق المفقود الذي لا يمكن استعادته.
لدى لبنان إمكانات وطاقات زراعية وصناعية كبيرة، كما لديه طاقات سياحية وخدماتية كبيرة. فلبنان في أمس الحاجة الآن إلى خطة إصلاحية سياسية وخطة اقتصادية تنموية شاملة، توفر نمواً متوازياً لقطاعات اقتصاده، فلا تضع السياسات المالية والنقدية في خدمة مصالح الطبقة الحاكمة، بل في خدمة نمو اقتصادي شامل وثابت ودائم. وعلى السياسات المالية والنقدية استهداف إزالة الفقر المتنامي في لبنان، حيث أصبح أكثر من 35% من سكانه تحت خط الفقر. وعلى السياسات الاقتصادية استهداف توفير فرص عمل للشباب، إذ أصبح 75% من خريجي جامعاته لا يجدون فيه عملاً، وتصل نسب البطالة إلى أكثر من 20% على الأقل، لا كما تدّعي بعض الأرقام الرسمية. وعلى السياسات المالية والنقدية حل مشكلة الدين العام الذي أوصلته سياسات الطبقة الحاكمة إلى مستويات لا يمكن تحمّلها. فقد بلغت نسبة الدين العام إلى واردات الخزينة حوالى 800%، وهي النسبة الأعلى في العالم. وبلغ عهر الطبقة الحاكمة معدلات غير مسبوقة أخلاقياً، عند الكلام على الإنجازات الاقتصادية التي تحققت خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، على إعادة بناء لبنان، وعلى ازدهاره، وكأن اللبنانيين، أو على الأقل 98% منهم، لا يعيشون مأساة هذا «الازدهار».
إن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية يفرض أولاً تجاوز هذه الطبقة الحاكمة أو إسقاطها لتحقيق ديموقراطية حقيقية ودولة عادلة. آن الأوان لإسقاط هذه الطبقة ولتغيير سياساتها الكارثية على اللبنانيين، فقد فقدت هذه الطبقة الحاكمة مبررات وجودها ومقوماته وأصبحت عقبة كأداء على طريق نهوض لبنان وحريته واستقلاله وازدهاره.
* كاتب لبناني