نبيل المقدّم *
قد يكون فراس حاطوم ورفيقاه بدخولهم شقة الصدّيق خلسة، قد خالفوا المنصوص عليه في القوانين المرعية الإجراء. فدفعوا بشِباك العدالة لأن تُطبق على حريتهم، لكن يبدو أن الموضوع ليست هذه آفاقه ولا معطياته. فالواضح أن يداً ثقيلة ترخي بقبضتها على القضية، وتحرك مسارها باتجاه إبقاء الصديق خارج نطاق المُساءلة القانونية والمعنوية. وكأنما في تعريضه الى وهج العدالة الحقة ذوبان لمشروع كان اغتيال الرئيس الحريري أحد مكوناته الأساسية. وما حُمّل الصدّيق من أقوال إحدى حلقات استكماله، وهذا المشروع وإن كان خارجيّ الدراسة والتصميم والمردود، فإن له عندنا من يدفع به ترويجاً وإثارة الى الحد الذي يجعل أصحابه الحقيقيين يتساءلون، إذا كانوا هم أصحاب المشروع أم هذا البعض من اللبنانيين الذين يضرمون النار في بلادهم لإنارة الدرب له؟ ولربما يكون الإيقاع بفراس ورفاقه يأتي في هذا السياق، لأنهم ربما التقطوا ما يمكن أن يؤشر الى احتمال إقفال سوقه وكساد بضاعته. وإلا ما معنى هذا الاستنكار اللطيف والخجول والمريب لهذه الحادثة، ممن حصروا بأنفسهم إصدار شهادات منشأ للحريات العامة. ولماذا لم يدفعوا بجحافلهم الاستقلالية للمطالبة بالحرية لفراس ورفاقه كما فعلوا يوم دفعوا بالناس الى الشارع بعد تخصيب مفاعلات التحريض الى الحد الأقصى، محمّلين إياهم كل عدّة الهدم لتعمل تدميراً في خزّان العلاقات اللبنانية السورية بما يحتويه من حقائق التاريخ والجغرافيا، مستغلين شقوقاً أحدثها البعض من لبنانيين وسوريين في هذا الخزان، وكل ذلك تحت شعار الخروج من نفق العبودية. فيما أتت الوقائع لتثبت أن النفق هو النفق لمن تعوّد السير في تعاريجه، وأن الذي تغيّر هو إشارات السير فقط. في هذه القضية ترتسم ملامح وضع قائم بكامله منذ ما يقارب العامين، ترفع فيه قوى الأكثرية وحكومتها السنيورية شعار: أنا ومن بعدي الطوفان». بسبب هذا الشعار طافت الشوارع في بيروت بسيول بشرية أقفلت كل منافذ العاصمة ومداخلها في الأول والعاشر من كانون الأول، مطالبة برحيل من لم يمطرهم إلا سياسات داكنة حوّلت اقتصادهم وأمنهم وحياتهم الاجتماعية، أنواء وأعاصير. وبسبب هذه السياسة حزم فراس أمتعته وطار الى باريس مطارداً سؤالاً، تتداعى مفاعيله كل يوم اهتزازات في جسم الوطن. هل ما يقوله هذا الصدّيق هو سكة الوصول الى الحقيقة المنشودة، أم أنّ في ما يدّعيه استحضاراً لوقيعة بين لبنان وسوريا تحضّر مستلزماتها منذ زمن؟
ولا تكتمل عناصر انفجارها إلا بهكذا عزف وهكذا عازفين، في هذا الذي جنّد له فراس نفسه هو ورفاقه، إدانة مدوية لهذه الحكومة ولهذا النهج. صحيح أن الحقيقة يجب أن تعرف وأن تُقال وأن تمارس، والقول للعلّامة الدكتور خليل سعادة. وهذا كان نهج فراس المهني وسيظل. لكن الصحيح أيضاً، أن هذه الحكومة، ومعها الفريق الذي تستنبع منه سياساتها يتعاطى منذ بدايات الموضوع، مع الصدّيق بمنطق المستثمر الذي لا همّ له إلا القضاء على منافسيه وإبعادهم عن سكّته، سواء كان الصدّيق ظهر من تلقاء نفسه كعامل جاذب للاستثمار، أو أن أحداً من فريق الأكثرية قام بجذبه للاستثمار فيه على ما يقال. ولم تتعاط معه بالمنطق الحازم المصرّ على فرز هذه المسألة فرزاً موضوعياً بحتاً، فتسلك إفادته الأبواب المولجة الى الإثباتات الدامغة، أو ترمى في سلة الأكاذيب ويرمى صاحبها وراء القضبان. وإلا كيف نستطيع تفسير كل هذا الحشد من الحماية والترف الذي يعيش فيه هذا الرجل في بلد كان فيه للرئيس الحريري مساحة واسعة من الحضور، المقرون بالمودة والاحترام. وفي ضوء ذلك من المفترض أن يكون رئيسه ومسؤولوه في مقدمة المطالبين بتسليط كشّافات العدالة على هذه المسألة، لا أن يمنع القضاء اللبناني من مجرد إلقاء السلام على شخصه الكريم. ما الذي يجري بالضبط؟ لقد صودرت حرية فراس ورفاقه بقرار قضائي، في طيّاته الكثير من مشاهد الاستغراب والحيرة وحوصرت بقرار ثان يبزّ الأول في غموضه وفرادته وتوقيته. هل بات الصدّيق الاستثمار الوحيد الباقي بعد سقوط كل الاستثمارات الأخرى من ديتليف ميليس الى عبد الحليم خدام، وصولاً الى حرب تموز؟ ربما لم يكن فراس حاطوم ورفاقه، في خضمّ اندفاعتهم المهنية الصافية والمشروعة، ليدركوا أنهم في مواجهة فريق في أوج توتره السياسي وأن كل ما يقوم به ويتصرف على أساسه منذ أن أدلى الصدّيق، بدلوه بات الأنبوب الوحيد الذي ما زال يحفظ له بعضاً من نفَس في الحياة السياسية اللبنانية. وإذا ما انتزع هذا الأنبوب فإن مسقبله السياسي الى غيبوبة طويلة. وربما لم يكن هذا الفريق ليتحمل ضغطين في آن واحد، ضغط الاندفاعة الشعبية الى ساحات الاعتصام، وضغط الاندفاعة الإعلامية التي تدفع نحو توضيح كل ما أراد أن يبقيه البعض خارج إطار الحقيقة والمحاسبة.
* كاتب سياسي