قاسم عز الدين *
فيما تتوالى مؤشرات وأحاديث ويُكشف عن مباحثات في فلسطين والعراق، تنتعش الديبلوماسية السورية وتبدي استعداداً للتفاوض «بغير شروط» مع اسرائيل، لكن وزيرة الخارجية الاسرائيلية تتخوّف من «إحباط المعتدلين العرب». وما زال بوش وبلير وشيراك يصرّون على عدم التفاوض مع سوريا وإيران بينما يغرق الأول في الوحل والآخران يوليان الإدبار. كل الدول الصناعية تحتاج الى التقاط أنفاسها بالثرثرة في سلام الشرق الأوسط وهي ثرثرة توقد مخيال قوى الاحتجاج والمعارضة العربية على وجه الخصوص لكنها لا تغير في استراتيجيات الدول الصناعية وفي سياسات قوى الاعتدال العربي مثقال ذرّة بل على العكس تغذيها. والحال ان الدول الصناعية أنجزت الشرط الأكبر من استراتيجيتها في سلام الشرق الأوسط ولم يبق أمامها غير «نزاعات» ترى حلّها «بوقف العنف ومكافحة الشرّ والإرهاب» تمهيداً لقبول اسرائيل التفاوض على «حلّ النزاعات»، ولا سيما «النزاع الاسرائيلي ــ الفلسطيني». فالاحتلالات والحقوق ليست معروضة للتفاوض، والحديث عن دولتين وانسحابات وتهدئة هو حديث إجراءات تقنية أمنية «لوقف العنف» المضاد لإسرائيل من دون وقف العنف الاسرائيلي. وإن طبيعة العلاقة السلمية بين إسرائيل والدول العربية (والفلسطينية) ليست قابلة للتفاوض على غرار العلاقات السلمية المتبادلة بين الدول المتكافئة في العالم إنما هي «تطبيعية» قسرية تتضمن الاعتراف لاسرائيل بحق الاستثناء والامتياز على غرار ما تعترف به الدول الصناعية لاسرائيل في السياسة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والحماية الأمنية والتفوق فهي ليست دولة دنيوية عادية من صنع البشر إنما هي دولة استثنائية من صنع الآلهة.
لذا لا تبحث الدول الصناعية واسرائيل عن السلام في الشرق الأوسط إنما تبحث عن «حل النزاعات» لاكتمال استراتيجيتها في سلام قطعت به شوطاً كبيراً وهو أمر تجتهد فيه الطبقة السياسية اليوم متأرجحةً بين إتمامه بالعنف وحده (مكافحة الشر والإرهاب) والجمع بين العنف والتفاوض مع محور الشرّ (سوريا وإيران) حسب توصيات تقرير بيكر ــ هاملتون التي ترى فيها قوى الاحتجاج العربي «تحولاً استراتيجياً».
حققت الدول الصناعية في استراتيجيتها توطيد مصالحها والمصالح الاسرائيلية كما لم تتحقق أثناء مرحلة الاستعمار فباتت تضع يدها على سياسات الدولة ــ السلطة في البلدان العربية من دون ممانعة من السلطة بل على العكس تُقبل السلطات على استيراد خدمات وضع اليد وتتقاسم معها العائدات، وباتت تتحكم بمصير المجتمعات العربية وأحوال المعاش من أقاصي الريف الى حواشي المدن وهي الفئات التي ظلت بمنأى عن سلطة الاستعمار تعيش من الأرض والتبادل المحلي. حقّقت أيضاً سلام الأمر الواقع على الجبهات العربية ــ الاسرائيلية حيث تعيش الدول العربية، منذ حرب أكتوبر 1973، «استراتيجيا سلام» أثمرت تطبّعاً في العلاقات العربية ــ الاسرائيلية في السرّ والعلن، وهو أمر لم يستطع ان يقوم بمثله الحكام الأفارقة الأكثر فساداً وارتباطاً بأجهزة الدول الصناعية سواء بتطبيع العلاقات مع دولة جنوبي إفريقيا قبل إزالة الأبارتايد أو مع اسرائيل قبل التطبيع العربي واتفاقات أوسلو. والأهم ان «جهود السلام» حققت «تلاقي المصالح» بين قوى الاعتدال العربي والدول الصناعية (واسرائيل)، فالدول العربية تتلمظ اليوم من «تعثّر جهود السلام» خوفاً من تطعيم «توسع النفوذ الايراني» المدعوم بالملف النووي على «توتّر النزاع» في العراق وفلسطين ولبنان. وهي لا تقلق من تبعيتها المفرطة في استراتيجيا الدول الصناعية التي تحتل الفراغ العربي وتتخذ من اسرائيل واسطة العقد بل على العكس من ذلك كانت تأمل «انتهاء المهمة» قبل انتهاء ولاية بوش ــ بلير، لكنها لا تفقد الأمل وهي «بطبعها متفائلة» وتزداد قناعة وإيماناً بأن العصر هو عصر العولمة الحضارية في «تلاقي المصالح» بين إدارات باعة النفط والطاقة والزراعة والأرض والمياه والمرافق العامة وبين دول صناعية معولمة المصالح والاستراتيجيات، توفّر لإدارات الباعة الغذاء وسلع الملذات الصغرى، وتوفر لها الأمان و«الحماية من الاعتداءات الخارجية» الخارجة عن إرادة الدول الصناعية. وقد أفضت هذه «العلاقة الحضارية المتكافئة» في «تلاقي المصالح» الى تفرّغ حكماء العرب «لتنمية» بلدانهم بعيداً من الاستراتيجيات والإيديولوجيا «ووجع الدفاع» فازدهرت الاقتصاديات العربية وأضحت (ما شاء الله!) تناطح السحاب والحبل على الجرار.
فيما تطمئن قوى الحكمة والاعتدال العربية الى «تلاقي المصالح» في استراتيجيا الدول الصناعية، تعمل قوى الاحتجاج والممانعة العربية على «تلاقي مصالح» سياسية مع الدول الصناعية. فتعرض خدماتها للمشاركة في «حل النزاعات» في العراق وفلسطين ولبنان مقابل الاعتراف بدورها الإقليمي والتفاوض معها حول «حلول شاملة وعادلة». تؤمن قوى المعارضة والاحتجاج بأن الخلاف مع اسرائيل والدول الصناعية هو خلاف في السياسة لا في الاستراتيجيا فهي مثل شقيقتها المعتدلة تكره الاستراتيجيات إذ إن الاستراتيجيا البديلة تقتضي مشاركة الفئات الاجتماعية وتطوير طاقاتها بحقوقها الاجتماعية والسياسية بينما تفضل أن يبقى الخلاف بالضغط السياسي من فوق وبالمساعدة على إقامة الحواجز أمام الزحف الأميركي ــ الاسرائيلي. في واقع الأمر تستند السياسة السورية المنتعشة بتقرير بيكر ــ هاملتون إلى خطاب عمومي يقيم حواجز شاهقة بين المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية والحريات السياسية لكنها تستند عملياً إلى هزيمة اسرائيل في لبنان وإلى الوحل العراقي وهما حدثان مهمان في المتغيرات السياسية، لكن لا يفكّكان استراتيجيا الدول الصناعية. فالمقاومة لا يمكنها ان تملأ كل الفراغات التي تخليها الأطراف والقوى الأخرى بتخلّيها عن تحمّل مسؤوليتها. ومن العبث والإجحاف تحميل المقاومة وحدها مسؤولية تغيير استراتيجيا الدول الصناعية، إذ هي استراتيجيا عسكرية، أمنية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، في فضاء الشرق الأوسط بأكمله لا تنكسر بغير استراتيجيا بديلة من مستواها أو أعلى. تعتمد استراتيجيا الدول الصناعية على «تلاقي المصالح» مع قوى اجتماعية وهدر الحقوق الوطنية والاجتماعية والسياسية للغالبية الساحقة من الفئات الاجتماعية ولا تقوم الاستراتيجيا البديلة بغير الاعتماد على تداخل الحقوق الوطنية و«تلاقي مصالح» الفئات المتضررة من هدر الحقوق. والمؤسف ان ايران التي لم تدخل الثرثرة في سلام الشرق الأوسط، لم تتعلم في العراق الدرس الأهم من النفوذ السوري في لبنان الذي اعتمد على الاستخبارات في توطيد مصالحه مع القوى السياسية اللبنانية النافذة ولم يعتمد على تطوير العلاقات المشتركة وعلى «تلاقي المصالح» بين القوى الاجتماعية السورية واللبنانية. مهّدت هذه السياسة الخرقاء الى زحف نفوذ الدول الصناعية على لبنان وتهديد سوريا، ولكن من خلف القوى السياسية اللبنانية عينها التي كانت نافذة زمن نفوذ الاستخبارات السورية.
* كاتب لبناني مقيم في فرنسا