محمد الضيقة *
بشكل متزامن مع حملة التجييش والتحريض الأميركية على المنطقة التي أعقبت أحداث 11 أيلول، وفي ظل التحضيرات لاحتلال أفغانستان ومن ثم العراق، انبرت مجموعة من السياسيين والمنظّرين في الوطن العربي للترويج لشعارات تعزيز الكيانية في مواجهة التضامن العربي. شعارات وآراء تبدو في ظاهرها مغرية، إلا ان التدقيق في غاياتها وأهدافها يكشف عن ارتباط هؤلاء بمشاريع تتجاوز كياناتهم، ويخدمون عن قصد أو غير قصد السياسات الاميركية والغربية في المنطقة. ما قصة هذه الشعارات الكيانية لبنان أولاً... فلسطين أولاً؟ وهل هناك مظلة موحدة ينضوي إليها الداعون الى هذا الخيار في الدول العربية؟ وما دور الغرب والولايات المتحدة في الترويج لهذا الخيار؟
بدأت القصة مع مصر. خلال مفاوضات كامب ديفيد، ولتبرير خيانته، رفع أنور السادات شعار مصر أولاً، ووجد الى جانبه حفنة من المثقفين، نظّروا لهذا الخيار، وتمكنوا من تحقيق بعض الاختراقات في الشارع، مستفيدين من حالة الفقر الشاملة للمصريين، وذلك بإطلاق الوعود المعسولة بأن السلام مع الكيان الصهيوني سيجلب المن والسلوى، ولم ينسَ هؤلاء المثقفون تحميل قضية فلسطين والالتزام بقضايا العرب المسؤولية المباشرة عن إفقار المصريين.
وفي السياق نفسه وللغاية عينها، عمد الغرب والولايات المتحدة بعد إخراج مصر من دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني مع ما تمثله من ثقل عسكري واقتصادي وبشري، الى إخراج القوة الثانية من حيث الاقتصاد والعسكر وهي الجزائر من خلال إدخالها في حرب أهلية كانت لواشنطن اليد الطولى فيها، حرب استنزفت وما زالت تستنزف الحجر والبشر، أما العراق الذي يشكل الضلع الثالث في مثلث القوة العربية فاحتُلّ مباشرة. هذه الانكسارات التي ضربت مراكز القوة في جسد الأمة، لم تكن وليدة الصدفة بل هي نتيجة عمل دؤوب ومراكمة سنوات من الدراسات في مراكز الأبحاث وأجهزة الاستخبارات في الغرب والولايات المتحدة، فالغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، كانا متيقّنين من أنه لا سبيل أمامهم من أجل تشتيت القوة العربية، مقدمةً لفرض هيمنتهم ومشاريعهم، وتعزيز دور الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط، إلا بضرب هذا المثلث، وأنه لا سبيل أمامهم لتكريس التجزئة بشكل نهائي وتثبيتها على مستوى الشارع، إلا من خلال إقناع الشارع اللبناني والفلسطيني والعراقي... بأن كل شارع مستقل، يشكل أمة مستقلة، أي إن كل شعب في كيانات سايكس بيكو هو أمة بحد ذاتها.
حقق هذا الخيار الكياني بعض النجاح، وساعدت الداعين إليه الإخفاقات المتتالية للمدافعين عن شعارات التضامن العربي في تحقيق أي نصر ولو جزئي على الكيان الصهيوني أو على صعيد إجهاض المشاريع الأميركية، هذه الإخفاقات فتحت السبيل أمام منظّري التجزئة لاحتلال الصفوف الأولى، وخصوصاً في السنوات الأخيرة التي شهدت انهياراً شاملاً لمنظومة ما جهد العرب تثبيته وهو التضامن العربي.
واكبت واشنطن ما أحدثه دعاة الخيار الكياني من شرخ في الشارع العربي بعدما بات لهذا التوجه أنصار يتفاوت حجمهم بين كيان وآخر، بإطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الشرق الأوسط الجديد، وغيرها من المشاريع التي تهدف حسب الادعاءات الاميركية الى تعميم الديموقراطية والسيادة والحرية في المنطقة.
ظنت واشنطن وحلفاؤها في الغرب وفي المنطقة أن مخططاتها بدأت تترسخ على الصعيد الرسمي العربي، بل في الشارع أيضاً، فبدأت تتصرف كأنها قادرة على فرض ما تريد من دون مقاومة، إلا ان الحسابات الاميركية كما حسابات حلفائها لم تكن دقيقة، وما عملت من أجله لسنوات أخذ يتهاوى تحت ضربات المقاومة في أفغانستان والعراق وفلسطين، وخصوصاً بعد النصر الذي حققته المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان، والذي اعتبره المحلّلون والمراقبون في لبنان بل في العالم أجمع أيضاً أنه شكل اللبنة الأولى في جدار التصدي للسياسات الاميركية والخطوة الأولى لهجوم مضاد لضرب كل التوجّهات التي انخرطت في الترويج لهذه السياسات.
ما لا شك فيه ان النصر الذي حققته المقاومة كانت له تداعياته على الكيان الصهيوني، وبالتالي على المشاريع الاميركية، إلا ان الأهم من هذه التداعيات هو إعادة الثقة للشارع العربي الذي آزر وواكب المقاومة خلال المواجهة مقتنعاً بأن هناك امكانية إلحاق الهزيمة بإسرائيل، ومن ان هناك امكانية إجهاض كل المشاريع المشبوهة التي تستهدف المنطقة، والأهم من كل ذلك ان الشارع العربي أثبت انه محصّن تجاه كل مشاريع تفتيته، وأنه ما زال يملك المبادرة في الدفاع عن مصالحه التي هي مصالح الوطن العربي من دون تمييز بين لبناني وفلسطيني وعراقي...
لقد أطاحت المقاومة سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان، كل ما بنته واشنطن من أطر سياسية تحت عناوين مختلفة للدفاع عن مصالحها، وكشفت المقاومة زيف الادعاءات الاميركية الحرص على المنطقة وشعوبها، وفضحت دعاة تكريس التجزئة بعد انكشاف أنهم مجرد أدوات صغيرة لتنفيذ مشاريع مشبوهة وأن أهميتهم مرتبطة فقط بقدرتهم على خدمة هذه المشاريع، وفي حال إعادة واشنطن درس استراتيجياتها في المنطقة كما هو حاصل الآن بعد تقرير بيكر ــ هاملتون فإن هؤلاء الأدوات يتحولون الى مسعورين خائفين، وخصوصاً ان التطورات المرتقبة المقبلة لن تسمح لهم بأي دور، فالتقرير الاميركي أعاد الأمور الى نصابها الطبيعي، إذ إنه لا يمكن أي سياسة دولية مهما كانت كبيرة أن تهمل في معالجتها الملفات الساخنة المفتوحة أهمية دور الدول الإقليمية.
ان التقرير الاميركي وضع حداً لسياسات اميركية بدأت في أعقاب 11 أيلول، وأسّس لسياسة جديدة قد نرى تباشيرها قريباً، تفرض على الرئيس الاميركي التعامل مع المنطقة كوحدة متكاملة لا ككيانات منفصلة كما حاولت واشنطن تكريسه وتعميمه خلال السنوات الماضية.
* كاتب لبناني