يورغن هابرماس *
ليس الانطواء على الدولة القومية، وما يؤدّي إليه من نزعات انعزالية تقوقعية في الدول الأوروبية، سوى دليل على أنّ الدينامية الأوروبية، هي اليوم ــ وعلى الرغم من حسناتها ــ في حالة من الإنهاك.
لم يعد المصطلح الأوروبي ذات صدى إيجابي في الصحافة الأوروبية، فأبناء القارة العجوز باتوا يفضّلون حصر اهتماماتهم بجدول أعمال وطني ــ محلّي. لا تقتصر هذه العودة الى النزعة الوطنية ــ القومية على الجيل الأوروبي القديم، بل باتت رائجة حتّى في أوساط الجيل الفتي. ففي ظل عصر المنافسة المعولمة، تعود «حقائق الأعراق القومية النقية» لتدغدغ حنين شعوب وفّرت لها «دولة الرعاية» في أوروبا، كل مستلزمات الرفاه تقريبا.ً
يطرح معارضو المشروع الأوروبي الموحّد مجموعة تبريرات لموقفهم، مفادها أنّ تمتين المؤسسات الأوروبية لن يكون ضروريّاً ولا ممكناً حتّى، فالاندفاعة نحو الوحدة الأوروبية استنفدت طاقاتها بما أنّها حقّقت الأهداف المرسومة لها: ساد السلام ما بين الشعوب الأوروبية التي عرفت حروباً طويلة في ما بينها، وتحقّق مشروع السوق الأوروبية المشتركة.
يتابع هؤلاء بناء نظريتهم، فيدّعون أنّ استمرار حدّة الخلافات بين الدول هو خير دليل على استحالة بناء أي كيان سياسي يسمو على الحدود الوطنية.
ننطلق من وجهة النظر هذه التي لا نوافق عليها، للتصويب على المشاكل والتهديدات الحقيقية التي لن نجد حلولاً لها، ما دمنا في منتصف طريق بناء المشروع الأوروبي الديموقراطي المزوّد قدرات حقيقية للعمل والفاعلية السياسيين.
تعتبر المشكلة الأولى أن أعضاء الاتحاد، وفي معرض بنائهم له، قد خسروا من ناحية الجوهر الديموقراطي: إنّ السواد الأعظم من القرارات السياسية التي تتّخذ في بروكسيل (عاصمة الاتحاد)، يتم إدخالها على التشريعات الوطنية من دون أن يتمكّن المواطنون من التصويت عليها، ذلك لأنّه لا توجد «مساحة سياسية أوروبية عامة». يمكن تفسير هذا النقص الديموقراطي بعامل عدم وجود دستور أوروبي.
تكمن المشكلة الثانية في عجز الأوروبيّين عن الظهور أمام «الخارج» بجبهة موحّدة. لن يتمكّن الاتحاد الأوروبي من سدّ الثغرات الموجودة في السياسات الدولية من دون اعتماد سياسة خارجية موحّدة. للمرّة الأولى منذ عام 1948، يمكن الديبلوماسية في الشرق الأوسط أن تستند إلى وجود طرف ثالث مفوّض من الأمم المتحدة. أمام هذه الفرصة، أظهرت الحكومات الأوروبية «غيرة» بعضها تجاه بعض، ما منع خافيير سولانا، ممثّلهم الديبلوماسي، من السير قدماً بأجندة خارجية مشتركة. وعلى الرغم من كلّ العوامل، لا يزال الأوروبيون هم الوحيدين القادرين على الضغط على حليفهم الأميركي، لمنعه من القضاء على المسوّغ الشرعي المتبقّي للنظام الدولي، وهو القانون الدولي الكلاسيكي، الذي باتت تحل محلّه سياسات دولية تسيّرها أسس الداروينية الاجتماعية.
أمّا المشكلة الثالثة، فهي القضم التدريجي للمعايير الاجتماعية التي تحافظ على الكرامة الانسانية. يتّضح من دون كبير عناء، أنّ الحكومات الأوروبية غير قادرة على حلّ هذه المعضلة بشكل فردي. يأتي في هذا السياق النقد الموجّه لليبرالية الأورثوذوكسية في محلّه تماماً: عندما يتلاقى ارتفاع أسعار الأسهم في البورصات مع التسريح الجماعي للعمّال، يتحقّق منطق الشراهة القاتلة لاقتصاد السوق المتفلّت من كل ضوابط.
لمواجهة هذه الحالة، لا يمكن البقاء داخل الأطر الوطنية، لأنّ الخلل في العلاقة ما بين «السياسة» و«السوق» هو ظاهرة عالمية، فوحده «اتحاد أوروبي» ذو صلاحيات سياسية خارجية، يقدر على التأثير في إعادة هيكلة السياسات الاقتصادية العالمية. وحده اتحاد أوروبي من هذا النوع مؤهّل لتفعيل سياسة عالمية بيئية مستدامة.
أخيراً نصل الى المشكلة الرابعة الضاغطة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهي المنحى الأصولي الذي بات يميّز التعدّد الثقافي في المجتمعات الأوروبية. لقد تعزّزت النقاشات في هذه المشكلة من خلال ملف الهجرة الى دول الاتحاد. وفي زمن «الإرهاب» اليوم، نخشى أن تُحصر أطر معالجة الموضوع في أبعاد السياسات الأمنية الداخلية حصراً. إنّ الأحداث التي تقع في الضواحي الباريسية من فترة لأخرى، والأعمال «الإرهابية» التي قام بها شبّان بريطانيون من أصول مهاجرة في شوارع لندن، تثبت أنّه لا يمكن الاكتفاء بالإجراءات البوليسية لحماية «القلعة الأوروبية». كان من المفترض بنا، نحن الأوروبيين، أن نعتبر أطفال المهاجرين جزءاً من نسيجنا. إلا أنّ عدم اعتبارنا إيّاهم بهذه الصفة، قد جعل من موضوعهم تحدّياً حقيقياً، تحدياً ليس لوزراء داخلية الدول الأوروبية، بل لمجتمعاتنا المدنية. إنّ التحدّي الحقيقي هنا، هو احترام الاختلاف الديني والثقافي للوافدين علينا من جهة، والعمل على إدماجهم في مجتمعاتنا المدنية من جهة أخرى.
يصرّ معارضو المشروع الأوروبي الموحّد، على أنّه يستحيل الوصول يوماً الى «ولايات متحدة أوروبية» لأنّ البنية الأساسية لـ«شعب أوروبي» تنقص البناء الأوروبي المزعوم. في الحقيقة، تبقى الإشكالية التي يجب الإجابة عنها هنا، هي اذا ما كان ممكناً بناء حالة تضامن فوق وطنية في مجتمع مدني واحد على امتداد القارة الأوروبية. إنّ حلم الوصول الى هويّة أوروبية واحدة، لن يتحقّق قبل أن تطرأ تغييرات على داخل كل مجتمع أوروبي، تغييرات تؤدّي الى فتح ثغرات في النسيج الثقافي والديني لاستيعاب مواطنين من أصول إثنية ودينية مختلفة. إنّ تعرّف مجتمعاتنا العلمانية بديناميات ديانات نجهل الكثير عنها، يخلق لدى المؤمنين عندنا أصداء وارتدادات فكرية وروحية جديدة. إنّ المؤمنين بديانات «غريبة عنّا» من بين المهاجرين الى أوروبا، هم عنصر محفّز للمؤمنين الأوروبيين، وهم يشجّعون أيضاً غير المؤمنين على المزيد من إعمال العقل في ثقافات وأنماط اجتماعية لا يعرفون عنها الكثير.
بغية إنجاح مشروع الاندماج، على التنازل أن يكون متبادلاً. في الدول الأوروبية، يعاني المسلمون ضغوطاً هائلة، فإلى جانب أنّه مطلوب منهم التأقلم مع المجتمع الذي يعيشون فيه، فإنّ هذا التأقلم مطلوب بسرعة قياسية، ودفعةً واحدة! يجب ألا يغيب عن بالنا أبداً، أنه، ولكي يتبنّى المسلمون في أوروبا قواعد الدولة الليبرالية، هناك شرط لا بدّ من تلبيته من جانب المنظومة الثقافية الأوروبية نفسها، وهو أنّ على هذه الأخيرة أن تقابلهم بانفتاح وتنازلات، تجعل من «إرادة العيش معاً»، عملية تخصّ الطرفين معاً، الغربي المسيحي، والشرقي المسلم.
إنّ اعتبار تلك الخطوة الضرورية «استسلاماً من جانب الغرب»، لهو وقوع في فخّ صقور الإدارة الأميركية المؤدلجة، وهو، أقصدنا ذلك أم لم نفعل، تعزيز لدعواتهم الغبية الى الحروب بين الحضارات والأديان. لم تعد شعارات «الإسلام الفاشي» و«الحرب على الإرهاب» حقائق بديهية كما يريدها جورج بوش وصقوره. أمّا «هستيريا» الدفاع عن «القيم الغربية»، فليست سوى مرادف للدعوة لحمل السلاح ضدّ عدوّ داخلي. إنّ الادّعاء بسوء نيّة، أنّ منح جائزة نوبل للتركي «أورهان باموك» هو الدليل اليقيني على الصدام الحتمي للحضارات، هو دعوة واضحة للحروب بين الثقافات.
يبقى الإقدام على المحظور ضربةً قاضيةً لكل القيم الانسانية والدينية: علينا ألا نحضن ادّعاءات جورج بوش، وقبل كل شيء علينا ألا نساعده على «عسكرة الفكر الغربي»!!
* فيلسوف الماني
(ترجمة أرنست خوري ــ عن صحيفة لو موند الفرنسية، عددها الصادر في 24-12-2006).