محمود سريع القلم*
من خلال رصد حركة صنّاع القرار في واشنطن من مسؤولين وباحثين ومستشارين وتصريحاتهم وكتاباتهم، خلال الأشهر الستة الأخيرة، نجد أن ثمة خمسة توجّهات مختلفة تحكم نظرة نخب الإدارة الأميركية إلى إيران وكيفية التعامل معها، إذ في ظل الإجماع على وجود مشكلة حقيقية مع إيران، ثمة تباينات في كيفية معالجة هذه المشكلة ومواجهتها.
1 ــ «الديبلوماسية المتعددة الأبعاد»: هذه الرؤية تفصل بين «مشكلتين أميركيتين»: الأولى طارئة وفورية وهي قدرة ايران النووية، والثانية على المدى المتوسط والبعيد وترتبط بطريقة التعامل مع ايران ونظامها السياسي الحالي، ويرى أصحاب هذا التوجّه ان المسألة السياسية ستحل بمرور الزمن عبر التغييرات الهادئة على المستوى السياسي والاجتماعي التي تتحقق يوماً بعد يوم عبر التأكيد على «الجمهورية» في النظام السياسي الإيراني «ولكن الخطر قد يكمن في نتائج الانتخابات ومدى حدتها في معاداة أميركا». وفي كل الأحوال، سيصبح النظام السياسي أكثر توجّهاً نحو الشأن الداخلي وغرقاً فيه، وستخف تدريجاً أبعاده الدولية المتعارضة مع سياسات واشنطن. التحدي العاجل هو المسألة النووية التي تشكل رمز المواجهة ذات الاحتمالين: إما العمل العسكري المباشر وإما الحل الديبلوماسي الذي يرى ان ايران ستكون مستعدة للحصول على امتيازات ومغريات كبيرة نسبياً من اميركا وأوروبا مقابل وقف مشروعها النووي، ويستند هذا إلى ان اميركا قد نجحت في الفترة الماضية في تحويل المواجهة لتشمل أوروبا ومجلس الأمن، وبالتالي وفّرت الشرعية ونوعاً ما الإجماع الدولي اللازم للضغط، وعلى اميركا ان تتابع هذا المسار مع تعامل أكثر جدية مع الروس لإقناعهم برفع الغطاء عن ايران ــ صفقة في الشيشان أو البلطيق قد تكون فكرة سديدة ــ وكذلك القيام من ناحية أخرى بإجراءات «تقنع» ايران بعدم تهديد الحلفاء وخاصة اسرائيل وبعض الدول العربية وهذا الرأي يتبنّاه بعض الأوروبيين أيضاً: إن قبلت إيران بالمبادرة العربية للسلام مع اسرائيل التي توافق عليها العرب في قمة بيروت عام 2002، فلا بأس من متابعتها لبرنامج نووي تتأكد الوكالة الدولية من خلوه من الأسلحة وتضيّق عليه قدر المستطاع. المسألة المهمة الأخرى هي الثمن الذي ينبغي ان يعطى لإيران لوقف مشروعها النووي بعدما استخفت برزمة الحوافز. وهناك مقترحات متعددة كإعطاء ايران امتيازات عالمية في مجال النفط والغاز على سبيل المثال.
2 ــ «الضربة العسكرية الوقائية»: العقيدة العسكرية الأمنية الاميركية لا تسمح بوجود قدرة نووية لدى دولة لا علاقات رسمية لها مع اميركا، وهناك شك في نياتها ودوافعها العدائية وخاصة معارضتها عملية السلام في الشرق الأوسط وامتلاكها صواريخ تهدد الشريك الاستراتيجي لأميركا (اسرائيل) مباشرة أو عبر دعم «المجموعات المحاربة»، والضربة الاستباقية هي الحل الوحيد المتبقي بعد فشل المفاوضات. خريطة الأهداف جاهزة في نطنز وأصفهان وآراك وبوشهر، ولكن المشكلة هنا عدم وجود معلومات كاملة عن منشآت أخرى محتملة، وأيضاً على الإدارة والجيش الأميركيين الاستعداد لدفع أثمان قد تكون باهظة في مناطق أخرى: العراق، لبنان، أفغانستان.. وكذلك عليها عدم إغلاق الباب أمام التفاوض السياسي بعد الضربة الجوية والصاروخية الخاطفة ذات التقنيات العالية.
3 ــ «ردع القوة الإيرانية وتأخيرها وسد منافذها»: نظام الجمهورية الاسلامية يخالف السياسات الاميركية ووجود اسرائيل، وعليه ينبغي ان تقوم اميركا في حركة موازية بإعاقة أي تقدم اقتصادي، عسكري، تقني، تجاري وسياسي لإيران عبر طريقين: طرح ايران كخطر وتهديد عالمي من جهة، وعزل ايران من جهة أخرى، وقرار مجلس الأمن 1737 خطوة أساسية في هذا الاتجاه. والعمل على إعداد خطط شاملة ومتنوعة: تفعيل الردع والإعاقة، تمهيد الأجواء للعمل العسكري وإسقاط النظام في ايران، وبناءً على السلوك الايراني تفعّل الإدارة الاميركية بعض هذه الخطط وتؤخر البعض الآخر. فهي إذاً حرب باردة وقد نجحت في إسقاط الاتحاد السوفياتي سابقاً فلم لا تنجح الآن؟ الاميركيون ينبغي ان يقنعوا النظام في ايران «بكل الوسائل» ان النمو الاقتصادي والشرعية الدولية تمر عبر علاقات جيدة مع اميركا وحينها «لن يسمعوا منا أي نقد أو تدخّل في شؤونهم الداخلية».
4 ــ «تغيير الدولة وإقامة نظام ديموقراطي»:
«كم يمكن هذا النظام ان يستمر في ظل توجّهات سياسية واقتصادية وسياسة خارجية كهذه؟ وإن حصلت تغيّرات أساسية في النظام فبيد من ستكون القدرة النووية؟ هل هناك تيار ديموقراطي قوي ويعتمد عليه في التغيير؟ كم هي نسبة الايرانيين الذين سيدعمونه؟ لا جواب دقيقاً عن هذه الأسئلة وما حولها عند الادارة الاميركية. يقول أصحاب فكرة «نشر الديموقراطية» إنه حتى لو قبلت اميركا بوجود ايران نووية فإن النظام الحالي لن يتخلى عن محاربة المصالح الاميركية إذ هذا جزء من ماهيته الثورية الإسلامية. الضربة العسكرية ستؤدي «عكس الغرض» وتقوّي النظام وتزيد من شعبيته. قطع العلاقات مع ايران منذ ربع قرن جعلنا نبتعد ونجهل الواقع الايراني الحالي، وكذلك الإبهام وردود الفعل الايرانية المبهمة والموهمة جعلت الديبلوماسية الاميركية تحتاط كثيراً ولا تتفق على رؤية موحدة. المطلوب: الترويج عالمياً لفكرة «دمقرطة» ايران. ليست مهمة اميركا وليس في مقدورها تغيير النظام في طهران، ولكن طرح مسألتيْ حقوق الانسان والديموقراطية سيؤدي إلى تغيير سلوك ايران في مجالين: ــ عدم مواجهة اسرائيل، وإن لم تعترف إيران بها رسمياً، يمكنها ان تحتذي ماليزيا مثلاً. ــ عدم التدخل الايراني في آسيا الشمالية ومنطقة القوقاز بما يصب في مصلحة روسيا. هذان الأمران يوفران المصالح القومية الاميركية. التعامل الاستراتيجي يطمئن ايران ان اميركا لا تعمل على إطاحة نظامها ويعيد اميركا ديموقراطياً الى ايران.
5 ــ «الصفقة الكبرى مع ايران»: التوجه النووي لإيران ينبع من: الإحساس بالعزلة السياسية والأمنية، وتزايد القدرة على مواجهة التهديدات الاسرائيلية والاميركية. سيصعب على اميركا في المستقبل التفاوض مع ايران نووية، لأن الايرانيين مفاوضون متمرّسون و«مولعون» بالمفاوضات الطويلة الأمد التي ترهق المفاوض الاميركي غير المطلع على دقائق الأمور في الداخل الايراني. الكونغرس (الجمهوري قبل الانتخابات وفوز الديموقراطيين) واللوبي الصهيوني يعارضان فكرة الصفقة الشاملة بينما هناك جهات في وزارة الخارجية تعتقد بها حلاً وحيداً للوضع المتأزم مع ايران. الصفقة الكبرى هذه تحتاج الى نيات متقابلة ووضوح في التصميم وهذا غير متوافر حالياً ولكن يمكن التمهيد له عبر تفعيل خيارات متلازمة ومنسجمة (الردع واستمرار الضغط والعقوبات وأجواء التهديد العسكري والحرب النفسية والإعلامية لنشر الديموقراطية) لتكون كلها عناصر مكملة في خدمة الديبلوماسية والمفاوضات التي تمهّد للصفقة الكبرى بعد ان تقنع ايران بعدم قدرتها على المواجهة وان خطوة شجاعة مشتركة ستوفر عليها الكثير من المتاعب.
* كاتب سياسي من ايران
(ترجمة محمد عليق)