كميل داغر *
السيد البطريرك

ترددتُ كثيراً قبل أن تنضج لديَّ فكرة مخاطبتك، علانيةً. ومن المرجَّح أن لا يكون اسمي يعني لك أي شيء، ذلك أن المناسبتين الوحيدتين اللتين سبق أن وضعتاني على حد من التماسّ معك تعودان إلى زمن ممعن في البعد، وكنتُ لا أزال مراهقاً: أتيتَ، في الحالتين، منتدباً من سلفك الراحل البطريرك معوشي، لترؤس جنازتي جدي، ثم أبي، وتلاوة الرقيم البطريركي، وإلقاء كلمة تأبين في كلٍّ من تينك المناسبتين الحزينتين.
تغيرت أشياء كثيرة لاحقاً، وباتت لدي قناعات أخرى بخصوص الحياة والموت، والمعتقدات الماورائية. بيد أنني لا أزال أشعر بعميق الاهتمام بمصير الناس الذين يتشاطرون الإيمان ذاته مع آبائي وأجدادي، في الوقت عينه الذي يشمل فيه هذا الاهتمام، والقلق الشديد أيضاً، مصير باقي المواطنين، ومصير الوطن بأسره، بالتأكيد. وأظن أن هذين الاهتمام والقلق يتيحان لي أن أخاطبك، ربما باسمهم، لا بل حتى باسم أمثالهم على امتداد هذا الشرق، ولا سيما أنك، بحسب تعريف المهمة المنوطة بك، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق. أي أن مواقفك تؤثر حتماً، ليس فقط في مصير موارنة لبنان، بل أيضاً في مصير مسيحيي الشرق، أجمعين. في كل حال، لو أنك تهتم فقط بقضايا الدين، لما وجدت أدنى حاجة لمخاطبتك، لكنك تهتم كثيراً بقضايا السياسة، إما مباشرة، عبر مقابلات إعلامية، أو في تصريحات صحافية، أو عظات كثيراً ما يغلب فيها الموقف السياسي، أو أقل مباشرة، عبر ما يصدر عن مجلس المطارنة الموارنة الذي تترأسه عادة.
لأجل ذلك، أعتقد أنه واجب عليَّ، أن أضع أمام غبطتك الحقائق التالية:
1. لقد كانت هنالك دائماً، وعبر التاريخ، كنيستان، الأولى والأقوى هي الكنيسة التقليدية، التي تساند الوضع القائم، وتساهم في حمايته، مع ما يعنيه ذلك من دعم لقوى العسف والاستغلال في هذا العالم؛ والثانية، الأضعف إلى الآن، وهي الكنيسة الشعبية، المتمثلة، في العقود الأخيرة، بكهنةٍ وقلةٍ من الأساقفة الطامحين إلى التغيير الثوري، والمنضوين في ما يعرف، في أميركا اللاتينية بوجه خاص، بلاهوت التحرير. وقد يكون المطران غريغوار حداد، على مستوى لبنان، يمثل حالة قريبة، وإن أقل جذرية، في النضالات الاجتماعية التي خاضها مع الفقراء والمظلومين في بلدنا، وبوجه أخص في كفاحه لفصل الدين عن الدولة، وإقامة مجتمع ودولة علمانيين، على أنقاض مجتمع المحاصصة الطائفية والتذابح الأهلي المتكرر.
الكنيسة الشعبية هذه، كان بين رموزها الأكثر سطوعاً ذلك الكاهن الكولومبي، الذي سقط وهو يشارك في الكفاح المسلح ضد سلطة بلده الرأسمالية التابعة لواشنطن وللاحتكارات الأميركية الشمالية، في عام 1966، أي قبل عام واحد من مصرع تشي غيفارا في أدغال بوليفيا. والكاهن المذكور، الذي أدى دور ملهم أساسي لهذه الكنيسة، هو كميلو تورس؛ وكان قد رأى، في الكتابات المهمة جداً التي تركها، أن «واجب كل مسيحي أن يكون ثورياً». وكانت أفكاره، وممارسته، عميقة الأثر في كهنة آخرين، من بينهم ثلاثة هم دومينغو لاين، وخوسيه أنطونيو خيمينيز ومانويل بيريز. هؤلاء كان قد سامهم في احتفال رسمي، في تموز 1966، في كنيسة سيكستين، البابا الأسبق بولس السادس، من ضمن 70 كاهناً تم اختيارهم لكي يعملوا مرسلين في أميركا اللاتينية ويحدّوا من صعود الموجة الثورية، واختراقها أسوار الكنيسة هناك.
بيد أن لاين وخيمينيز وبيريز الذين سبق أن تقاسموا، في فرنسا، «الحياة البائسة، والعمل المتعرض لفرط الاستغلال والاضطهاد العنصري للمهاجرين من إسبانيا وبلدان أخرى من جنوب أوروبا وشمال أفريقيا»، وباتوا يشعرون بالنفور من الطقوس، متسائلين «لماذا الذهاب إلى قداس الأحد في كنيسة إذا كنا نعيش قداساً أعمق في متنَّكات المهاجرين؟!»، سرعان ما وجدوا أنفسهم، بعد انتقالهم إلى أميركا الجنوبية، ومعاينة الوضع الشعبي هناك، يلتحقون، هم أيضاً، بالكفاح المسلح في كولومبيا، في «جيش التحرير الوطني»، الذي سبق أن قاتل تورس في صفوفه، معتبرين على حد تعبير أحدهم، دومنغو لاين، أنهم اختاروا الثورة الاشتراكية «لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لكي نجتثّ من الجذور أسباب استغلال الإنسان للإنسان».
وقد ردّ أحد الكهنة الثلاثة، مانويل بيريز، القيادي الأهم، لاحقاً، في الجيش المذكور، ردّ حتى نهاية حياته، في عام 1998، على من كانوا يؤكدون أن الاشتراكية لم تعد راهنة في أميركا اللاتينية، بالقول: «نعتقد أنها باتت أكثر راهنية بكثير مما كانت سابقاً، لكننا واعون أن الأمر سيكون اشتراكية خاصة بأميركا اللاتينية (...) وهذا يبيّن لنا أنه لا يمكن أن ننسخ نماذج الآخرين، وأننا سنكون متنبّهين جداً لتصحيح الأخطاء التي ارتكبت خلال بناء الاشتراكية». ولا بد من توضيح أن خيار الكهنة هؤلاء كان يعبّر عن الحدود القصوى لما وصلت إليه الكنيسة الشعبية ولاهوت التحرير، ضمن ظروف شهدت باستمرار تدخلات سافرة، من جانب الإدارة الأميركية.
2. وبالطبع، ومن دون أن تكون هذه الرسالة دعوة لك، إلى الانتساب لكنيسة الشعب هذه ــ فدون ذلك عقبات كأداء ــ لا بد من أن تسجّل ما يلاحظه عديدون بخصوص مواقف كثيرة لغبطتك تترك انطباعاً قوياً بأنك حسمت خيار الانحياز إلى الموقع المعاكس. وهو ما قد يشكّل خذلاناً، ليس فقط لشعوب المنطقة، بل أيضاً لشعبك الخاص، في مرحلة صراع مستميت، ضد الإمبراطورية الكبرى المعاصرة، وهي إمبراطورية شر بامتياز.
ولسوف أقتصر على ذكر البعض فقط من تلك الملاحظات، وهي الآتية:
‌أــ غياب موقف ضد الصهيونية العالمية وإسرائيل، وهو موقف اتخذه آخرون، في الوسط المسيحي في هذا الشرق، منهم المطران كبوجي، قبل عشرات السنين، وبابا الأقباط في مصر، الذي حظّر على رعيته التطبيع مع تل أبيب والحج إلى الديار المقدّسة ما دامت تحت الاحتلال، على الرغم من أن الدولة المصرية تبادلت الاعتراف مع إسرائيل، وأقامت معها علاقات مكتملة.
‌بــ غياب موقف، ولو نقدياً ضمن الحدود الدنيا، حيال رأس الإجرام العالمي بحق الشعوب، المتمثّل بالإدارة الأميركية الراهنة. لا بل تلاحقت زياراتك لواشنطن في الأعوام الأخيرة، ولقاءاتك مع قادتها، وبالتحديد في حقبة شهدت ذروة استباحة المنطقة العربية، سواء مباشرة، كما في العراق، أو بالواسطة، كما في لبنان وفلسطين. وكانت آخر تلك الزيارات، خلال الحرب الإسرائيلية الهمجية الأخيرة، المدعومة أميركياً، على لبنان، الذي عدت إليه على مروحية للجيش الأميركي، حطّت بك تحديداً في حرم السفارة الأميركية في عوكر!
‌جــ اتخاذك مواقف عديدة تنحاز عبرها، في خضمّ الصراع الذي يقسم البلد حالياً، إلى أحد طرفي هذا الصراع، كما ظهر خلال المقابلة التي أجرتها معك، في أواخر الشهر الماضي الإعلامية مي شدياق. ومن ذلك:
ــ تنديدك بالاعتصام الجماهيري في وسط بيروت، معتبراً أن «الإضراب المستمر والخيام المرفوعة تنذر بشرّ ولا تطمئن»، فيما لم تتخذ موقفاً مشابهاً خلال اعتصام قوى 14 آذار في المنطقة عينها.
ــ كلامك عن المعتصمين، في برد هذا الشتاء، كما لو كانوا يقبضون أجراً لقاء مشاركتهم في الاعتصام!
ــ إدانتك ما ترى أنه تدخّل سوري ــ إيراني، فيما ترفض إدانة التدخل الأميركي والأوروبي.
ــ تدخّلك في الخلاف القانوني حول شرعية أو عدم شرعية الحكومة الحالية، لمصلحة هذه الحكومة. في كل حال، ما أوردته أعلاه، لا يعني، بالضرورة، أني أنحاز إلى مواقف الطرف المقابل لذلك الذي يبدو أنك تمنحه مساندتك. على العكس، فإن أرضية اللقاء معه تقتصر، بالنسبة لي، على الموقف الوطني ضد إسرائيل والإدارة الأميركية، بانتظار ولادة تيار جماهيري، لاحقاً، يتجاوز الانشطارات الراهنة، ويناضل باستبسال لأجل الفصل التام بين الدين والدولة وإنجاز العلمنة الشاملة للمجتمع، بالتلازم مع تحقيق عدالة اجتماعية فعلية تضع حداً لكل مظاهر القهر والاستغلال، ومع إرساء سيادة واستقلال حقيقيين.
أيها السيّد البطريرك
في ختام المقابلة التي أجرتها معك «المؤسسة اللبنانية للإرسال» في 26 كانون الأول الماضي، تحدّثت عن الهجرة، وقلت إنها «تشمل الجميع»، وإن المسيحيين «في غالبيتهم يسافرون». وأظن أنه بقدر ما يمكن أن تصبح مواقفك، ومواقف الكنيسة التي تقودها، أكثر ارتباطاً بالمصالح الحقيقية لشعبك ــ وهي نفسها مصالح كل مواطنيك، إلى أي ملّة انتموا ــ يمكن أن يسهم ذلك عندئذ في أن يجد هؤلاء ملاذاً آمناً وكريماً في وطنهم، وأن يكفّوا بذلك عن البحث الدائم عن أوطان أخرى.
* محام وكاتب لبناني