توفيق شومان
من مفارقات مشهد العويل العربي على الرئيس العراقي المعدوم صدام حسين، لافتة رفعت على مدخل نقابة المحامين المصريين وكتب عليها: عمر المختار... جميلة بوحيرد... صدام حسين: طريق بلا نهاية.
عملية الجمع بين هذا الثلاثي، محصلتها إيجاد وحدة نضالية بين من قاتل وجاهد الاستعمار الايطالي (عمر المختار)، ومن قاوم وواجه الاستعمار الفرنسي (جميلة بوحيرد)، والرئيس العراقي المخلوع والمعدوم.
هنا، قد لا يفيد الحديث عن مفارقة الجمع بين متنافرين، تماماً مثلما هي حال الجمع بين الغابة والصحاري، فالحاصل في هذه الصيغة الحسابية ليس اثنين بل واحدان أو وحدتان، وكذلك الاستفاضة في الأمثلة لا تتيح الجمع بين مناضل وقاتل، أو بين مجاهد وسفاح، وعليه فإن حاصل الجمع بين عمر المختار وجميلة بوحيرو يساوي مناضلين أو مجاهدين. وأما إلحاق الرئيس صدام حسين بهما، فإن الحاصل يخرج عن مألوف الحساب وعلوم أخرى.
سبق القول إن الحديث عن مثل هذه المفارقة فاقد للفائدة والقيمة، وخصوصاً ان الرئيس صدام حسين استحال «مناضلاً وشهيداً للأمة»، وهو الأمر الذي يفرض مقاربة الموضوع من الزاوية «النفسثقافية» التي يختلط في مرتكزاتها الرمز والبطل والفداء والكرامة والأنا الجريحة والوهم والحاجة الى النصر ومطلقات أخرى متداخلة لا مبتدأ لها ولا خبر.
وبما يرتبط بالرئيس صدام حسين، وإدراجه شهيداً قارع الاستعمار والإمبريالية والغزو الخارجي، لا بد أولاً من الالتفات مليّاً الى ان العويل «الإسلامو ــ قومي» الحالي، لم يسبقه إسقاط أي توصيف نضالي على صدام حسين، ذلك انه حتى في ذروة الحشد «الإنجلو ــ أميركي» ضد العراق في الأسابيع أو الأيام التي سبقت دخول الأميركيين العاصمة بغداد في آذار من عام 2003، لم يحدث إلا على سبيل الندرة والاستثناء، أن ذهب إسلامي أو قومي الى إسباغ الرئيس العراقي السابق باللبوس النضالي، بل إن الفترة التي سبقت وتلت سقوط النظام البعثي في العراق، كانت حافلة بالتفريق بين النظام ورأسه من جهة، والوطن العراقي من جهة ثانية، ولذلك ذهبت الخطابية «الإسلامو ــ قومية» الى توكيد جرمية الرئيس صدام حسين وطغيانيته وتحميله أوزار البعثرة والفرقة العراقية الداخلية، ولكنها في جانب آخر، اتخذت وجهة الرفض لكل المرحلة التي أعقبت انهيار النظام العراقي، باعتبارها (المرحلة) نتاجاً احتلالياً.
المنطق السابق الذكر ينطوي على معايير منطلقة من صواب سياسي ينهض على ثابتة نبذ الاحتلال مهما كان لونه وصنفه وريحه، ولكن ان يستحيل الرئيس صدام حسين شهيداً، وبما يختزن هذا المفهوم من رمزية دينية ودلالة وطنية، فالأمر حينذاك يفرض تناوله من جوانب منفصلة عن السياسة والدين معاً، والبداية من حاجة «الإسلامو ــ قوميين» إلى الرمز، وهذا بيت القصيد الأول:
أ ــ لا شك في ان العالم العربي منذ رحيل الرئيس جمال عبد الناصر في خريف عام 1970، غدا فاقداً للرمز، والرمز هنا هو القائد الذي يختصر الأمة ويختزلها، بالقهر أو بالرغبة، والمثال الهتلري الألماني ربما يوجز حالة التماهي الشعبي المطلق مع الرمز الذي تجسد فيه طموحات الأمة، وعلى هذه الحال، غدا الرئيس صدام حسين في لحظة شنقه، رمزاً تكتمل فيه العناصر القربانية والمتصدية للأجنبي والمدافعة عن الاستقلال الوطني والمقاتلة لصنوف الظلم والاستعباد، وبمعنى مختصر، هذه هي سمات الشهادة: التضحية + الذوبان في العقيدة + محاربة الكافر + الدفاع عن حقوق الجماعة ووجودها.
ب ــ عموماً، لا تكتمل صورة الرمز إلا بإدخاله في إطار الشهادة، ولذلك قيل عن الرئيس جمال عبد الناصر بأنه قتل مسموماً، وهذا ما ينطبق على الرئيس ياسر عرفات، وما انطبق سابقاً على الرئيس عبد الكريم قاسم الذي ظل أنصاره يرددون زمناً بأن وجهه يظهر ضاحكاً مع اكتمال البدر في منتصف كل شهر، ولا داعي الى الإسهاب عن هذه «الحداثة» القربانية العربية، لاتصالها بالأصل، بالمفهوم الشعبي للشهادة لا بالمفهوم الديني ذي المتطلبات المعروفة لاستحالة المرء شهيداً حيث يأتي على رأسها الاختيار الإلهي والسلوك الديني للمرء نفسه، فضلاً عن المحركات الدافعة للجهاد والقتال، ومجموع ذلك يبقى في علم الله اذا كان من سمات الرئيس صدام حسين أو من ميزاته.
وعدا عن المفهوم الشعبي للشهادة، ثمة ما يقال مرة أخرى عن الرمز الشهيد، المتصل بصورة البطل، والأخير في التقليد العربي، هو «فارس» العشيرة أو القبيلة، ومن غير المهم كيف يكون سلوكه مع الأهل والأقربين (راجع سيرة الزير سالم)، فالغاية هي تحدي الآخر أو الصدام معه من دون مساءلة أو مكاشفة، وواجب العشيرة حينذاك الوقوف مع «فارسها»، والطامة الكبرى انه إذا فاز وكسب ارتد عليها، وإذا هلك وهزم، تحمّلت العشيرة أوزار أفعاله، ومع ذلك العشيرة لا تفرّط بـ«فارسها» و«بطلها» على قاعدة نصرة الأخ ظالماً ومظلوماً بعد إخلائها (القاعدة) من الشرح النبوي القائم على الهدي والتنوير. إن محصلة ما مر من كلام يتصل بمراوحة «الإسلامو ــ قوميين» بين معايير نظام أبوي تستغرقه القسوة، حيث الرمز جلاد، و«الشهيد» جلاد، والبطل جلاد، وإذ تجتمع في «الأب» العناصر السابقة الذكر كلها، فلا يعدو الأب وفق هذه الصورة، سوى شيخ العشيرة قديماً، والرئيس حاضراً، وعلى هذه القاعدة، لا تختلف مآثم الأسبقين عن اللاحقين من العرب، إلا في طريقة استقدام الملائح والمكرمات لـ«الشيخ ــ الرئيس»، فقديماً كانت القصيدة أداة تمجيد وإشادة، فيما الخطاب السياسي استخلفها راهناً، مضموماً إليه شرح علمي واف لكيفية عويل الضحية على جلادها.
من روائع ما كتب ناقدو الحقبة السوفياتية الراحلة، عن بكاء الضحية على الجلاد، يقول الشاعر المعروف رسول حمزاتوف، انه حين بلغ خبر وفاة الدكتاتور جوزيف ستالين معتقلي الرأي في السجون السوفياتية (وكانوا بالآلاف) راح المئات منهم يندبون وينتحبون، إذ لم يدخل في مخيّلة أحدهم، ان رجلاً مثل ستالين يمكن ان يغادر الحياة الدنيا، ووصل أمر بعضهم الى ضرب رأسه بقضبان السجون حتى سقط (سقطوا) صريعاً، والحال مع ترميز الرئيس صدام حسين وأسطرته شهيداً، فإن القوميين ممن هم خارج الدائرة الأمنية والحزبية الضيقة، قد تمت تسويتهم بالأرض، والاسلاميون لم يكن لهم مكان أصلاً في العراق، وأما المحامون والقضاة الذاهب بعضهم الى المحاججة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وكذلك واقع الصحافة والصحافيين، فقد كانوا خارج المكان العراقي البعثي وزمانه، وعلى الرغم من ذلك الندب الذي شوهد في أكثر من قطر عربي لا يفعل أكثر من استحضار مشهد بكاء المعتقلين السوفييت على ستالين، حيث الجسد بكى السكين التي جزّته.
وما يمكن ان يقال أيضاً عن خاتمة الرئيس صدام حسين ونهايته، ان نعته بـ«الشهيد» يؤسس لثقافة عربية مزدوجة ومتصادمة، وربما متقاتلة، أي ثقافتين، واحدة تقدّسه، وأخرى تؤبلسه، ومثل هذا التصادم لا ينتج وعياً واحداً أحوج ما يكون العالم العربي إليه في هذه المرحلة، فأهمية الرمز في حال ضرورته أنه يشكل مظلة تتفيّأ بسيرتها الجماعة وتتوحد تحت ظلها، وهذا لا يتوافر في الرئيس المخلوع والمعدوم، فهو مشروع قسمة لا مشروع جمع، فالرمز إما ان يكون جمعياً وإما لا يكون، فلا جدال فيه ولا نقاش، وقد يدور حوله وعنه وعليه غمز وهمز يبقيان في الخفاء فلا يبلغان العلن، ذاك هو عمر المختار، أو جميلة بوحيرو، أو عبد الكريم الخطابي، أو يوسف العظمة، أو عز الدين القسام، أو السيد عباس الموسوي، أو غيرهم ممن ملأوا صفحات القرن الماضي، حتى لا يصار إلى العودة إلى عهود الأنبياء والأولياء الصالحين...
* كاتب لبناني