وصفي الأمين *
وصل الشحن الطائفي في لبنان في الفترة الأخيرة حدّاً مخيفاً، وبلغ ذروة لم يبلغها في أسوأ مراحل الحرب الأهلية، وارتفعت درجة التوتر بين الطوائف بحيث بدا أننا بتنا في المرحلة التي تسبق الانفجار.
أخطر ما في الانقسام اليوم هو قناعة اللبنانيين التي تبدو راسخة في ان الاستقطاب الطائفي مصدر القوة والحماية في مجتمع متصدع ومهدد من الداخل والخارج، تغذي هذه القناعة فوبيا «تشرذم» الطائفة باعتباره علامة «ضعف» في ساحة نزاع يسودها التكتل الطائفي والمذهبي الذي يمهد لبلوغ الفرز حده الأقصى. الشحن المذهبي العالي الوتيرة اليوم على الساحة الإسلامية بين السنّة والشيعة يستدعي الكثير من الأسئلة ويثير الكثير من الشكوك. لكن سؤالاً كبيراً غائباً يطرح نفسه بإلحاح، هو كيف دخل السنة في لبنان نفق الصراع الطائفي فضلاً عن المذهبي، وبهذه الحدة والسرعة؟؟
الطائفة السنية طرف أساسي وأصيل في تأسيس الدولة اللبنانية واستقلالها، على رغم أنها لم تكن يوماً كتلة طائفية سياسية واحدة، إذ توزعتها قيادات وزعامات متعددة دينية ودنيوية، فتلك التي في بيروت تختلف عن التي في طرابلس، وهذه تختلف عن مثيلتها في صيدا، فضلاً عن الجموع التي انضوت إلى الطيف الحزبي اللبناني، فتصارعت وتنافست في معظم الأحيان، وعقدت تحالفات متقابلة ومتناقضة مع أطراف لبنانية على أسس سياسية ولأهداف سياسية، ولم يحدث أن سعى أي منها بجدية الى تكتيل السنّة في إطار طائفي سياسي واحد، ونزعم ان ذلك لم يكن يوماً أولوية أولى لدى هؤلاء، وانه حتى لو فكر أي من تلك الأطراف في ذلك، لكان الأمر سيكون صعباً، على عكس الطوائف الأخرى، والسبب في ذلك التنوع والتعدد التاريخي داخل هذه الطائفة.
لم يدخل السنة اللبنانيون في نزاع مع جهة في لبنان إلا حينما تعلق الأمر بقضية وطنية ذات أبعاد عربية وإسلامية (نحن هنا لا نتحدث عن المشاعر الطائفية العادية المفهومة).
«تشرذم» الطائفة وتوزع زعاماتها، وتصارعها أحياناً، لم يؤثر في مكانتها، ولم يكن ذلك سبباً للضعف حتى إبان الحرب الأهلية، حيث كانت لكل طائفة ميليشيا مسلحة وقوية، ما عدا الطائفة السنية التي لم تكن العسكرة أحد همومها الأساسية، لأسباب مختلفة، أهمها وأبرزها عدم الشعور بالحاجة الماسة إليها. فقد تصرفت دائماً باعتبارها الأكثرية، مستندة في ذلك الى امتدادها في المنطقة (الأكثرية السنية) فلم تر في التنافس والتصارع الطائفي في لبنان تهديداً لوجودها، بل كانت، نسبياً، في منأى عنه.
اغتيال رئيسي الوزراء اللبنانيين السابقين رياض الصلح ورشيد كرامي، مثلاً، لم يسبب الذعر ولا كان مبرراً لتشنج طائفي أو سياسي ولم يلجأ السنة الى البحث عن جهات داخلية أو خارجية ليحمّلوها وزر الجريمة بغرض التحشيد والاستقطاب الطائفيين. ولم يكن الظرف الإقليمي أو الدولي أو الداخلي فقط سبباً في هذا الهدوء، بل كان السبب الأساس بنيوياً متعلقاً بالاطمئنان السني لجهة القدرة على استيعاب الحدث (الجريمة)، مهما كان حجمه، بامتلاك البدائل المختلفة والمتعددة، الأمر الذي شكل مناعة من السقوط في الفراغ المخيف، الى جانب أنهم لم يروا الى الأمر على انه اعتداء على السنة في لبنان بغرض تحجيمهم، ونظروا الى الجريمة من زوايا متعددة ولم تختصر في رؤية واحدة التباسها مركّب.
بالمقارنة نجد ان الذعر في الشارع السني وصل حداً مخيفاً من اللحظة الأولى لاغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، على رغم انهم حينها كانوا كتلة كبرى ملتفة حول الحريري وتياره، وكانوا أكثر قوة في الدولة والمجتمع يمسكون بجزء كبير من مفاصل السلطة ومفاتيحها، إلا انهم بدوا في تلك اللحظة أكثر ضعفاً، وأكثر قابلية من أي وقت مضى للانزلاق في صراع طائفي عبثي، الى حد أن عدداً كبيراً من المحرمات استحل، وعدداً آخر من الخطوط الحمر (السنية أولاً) تم تجاوزه بسهولة مذهلة، فبدا الكثير من السنة وكأنهم طائفة أخرى مختلفة، وكل ذلك بذريعة اخترعها البعض وألبسها ثوباً وطنياً، وهي محاولة «تحصين» الطائفة، التي باتت تنظر بعين الشك الى كل ما حولها، ومن ثم استغلالها للاستيلاء على السلطة...
حالة الذعر التي أصابت جزءاً كبيراً من السنة بعد اغتيال الحريري سببها الشعور بالفراغ وغياب البدائل، الفراغ الذي كان إحدى نتائج سياسة الشهيد في الإلغاء والإبعاد والمحاصرة وترسيخ ثقافة الزعامة الواحدة التي مارسها بنجاح داخل الطائفة، ولكن بلا مسوّغ وطني، مهما كان الهدف من وراء هذه السياسة.
الحريري، الذي عاد الى لبنان بداية الثمانينيات حاملاً مشروعه الوطني المسلح بثروة ضخمة ودعم إقليمي ودولي كبير، يكاد يكون الزعيم اللبناني الوحيد الذي جمع حوله مروحة واسعة من المساعدين والمستشارين من كل الطوائف والمشارب الفكرية والسياسية، ونعتقد ان السبب في ذلك انه كان يحمل الذهنية الوطنية السنية التاريخية نفسها، إلا ان مساعديه، على الأغلب، فشلوا في الخروج من قمقم الطائفية الذي ألفوه في حركتهم السياسية، بل يبدو انهم أقنعوه بضرورة خوض اللعبة الطائفية في السياسة لتحشيد السنة في لبنان حوله والاتكاء عليهم والاستقواء بهم لتمرير مشروعه و«إنجاحه»، وهو الأمر الذي تمكّن من إنجازه.
بنجاح الحريري في التمهيد لتنفيذ مشروعه، تحوّل السنة في لبنان من أكثرية منهمكة بأولويات وقضايا وطنية كبرى، مطمئنة الى حاجة شركائها في الوطن إلى مشاركتها في بناء الدولة، إضافة الى عدم قدرتهم على تجاوزها، تحولوا الى طائفة أخرى تحرّكها الزعامة الطائفية الواحدة وظهرها الى الحائط.
هكذا انتقل السنة في لبنان من موقع الأكثرية ــ الأمة الى أقلية لبنانية جديدة تتصارع مع بقية الطوائف لتحصيل حقوق وحصص لم تحتج يوماً إلى الصراع للحصول عليها. وعندما ووجهت بطوائف تتساوى معها في الحجم الأقلوي، اضطرت زعاماتها الجديدة الطارئة (مستغلة غياب الزعيم القوي) الى عقد تحالفات كيفما اتفق والى الدخول في معارك دونكيشوتية للاستيلاء على السلطة، أو على معظمها على الأقل، مستخدمة لهذه الغاية الجمهور السني الخائف والمربك. وما إن لاحت بوادر الفشل حتى بدأت المعركة (معركة الزعامات الطارئة) لاستعادة الموقع الذي احتلته الزعامات السنية التاريخية منذ الاستقلال وحتى تسعينيات القرن الماضي!!! ولكن هذه المرة بقوة مبددة، بعيدة من التكتل وخالية من التعدد.
ما سبب حماسة السنة للتكتل وربما الانعزال لاحقاً؟ هل هو الضعف أم البحث عن مصادر القوة؟ وهل التكتل قوة، والتعدد دليل ضعف؟ أم عوامل الضعف الداخلي تدفع الجماعة الى البحث عن «عدو» خارجي تتوحّد في مواجهته؟ هل الشيعة والدروز، مثلاً، أقوياء يمتلكون دينامية الاستمرار بسبب تكتّلهم؟ أم الاستقطاب الحاد داخل هاتين الطائفتين يسهّل عملية استهدافهما؟ وهل المسيحيون ضعفاء بتعدد تياراتهم؟ وهل يفقدهم التعدد دينامية الاستمرار، أم يجعلهم رقماً مهماً لا غنى عنه في ظل الاستقطاب والشحن الطائفيين اللذين يفتكان بالطوائف الأخرى؟
السؤال الأساسي والأخير هو: لماذا، وبدل أن تُعمّم الحالة السنية التاريخية على بقية الطوائف اللبنانية، كانت خطيئة تحويلها الى طائفة (أقلية) جديدة والى كتلة كادت للحظة أن تصبح صمّاء؟؟
* كاتب لبناني