مأمون الحسيني *
تتجاوز التغييرات التي يجريها الرئيس الأميركي جورج بوش في صفوف كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين المعنيين بالمأزق المتفاقم في العراق، بمن فيهم السفير زلماي خليل زاد وقائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال جون أبي زيد وقائد القوات الاميركية في العراق الجنرال جورج كيسي، عملية الالتفاف على توصيات لجنة بيكر ــ هاملتون التي أقرت بالفشل الناصع في العراق، الى محاولة إقناع الكونغرس العاشر بعد المئة الذي يستحوذ فيه الديموقراطيون على أغلبية بدت مصممة على إحداث تغييرات جدية في السياسة الأميركية، ولا سيما منها السياسة الخارجية المتعلقة بالعراق، منذ اليوم الأول لأدائها اليمين الدستورية، وإقناع الشعب الأميركي الذي تؤكد استطلاعات الرأي تراجع نسبة التأييد في صفوفه لسياسة الرئيس الأميركي جورج بوش الى مستوى 28 في المئة، بتأييد استراتيجيته الجديدة في العراق، والتي لا تحمل، على الصعيد العملي، أي جديد يذكر، لا بل إنها تتعارض في مفاصلها الأساسية، بشكل فاقع، مع توصيات لجنة بيكر ــ هاملتون التي شددت على ضرورة خفض عدد القوات الأميركية في العراق تدريجاً، كإحدى الخطوات الضرورية للخروج من المستنقع، وذلك عندما تلحظ هذه الاستراتيجيا إرسال ما بين 20 الى 40 ألف جندي إضافي، ما سيرفع عدد القوات الاميركية في العراق الى نحو 165 ألف جندي.
أبرز الأسئلة المركزية التي تطرحها هذه التطورات الأميركية التي بدأت بتفاقم المأزق في العراق، وتواصلت مع هيمنة الديموقراطيين على مجلسي الكونغرس، وإن بأغلبية غير ساحقة، وامتدت نحو تقرير بيكر ــ هاملتون والاستراتيجيا الجديدة للرئيس الأميركي، يتركز على إمكانية التعايش بين إدارة الرئيس بوش الذي يرفض الاعتراف بالفشل في العراق، وبين الأغلبية الديموقراطية في السلطة التشريعية التي تضع في رأس أولوياتها مهمة إعادة الجنود الأميركيين في العراق الى بلادهم، وحدود الصلاحيات في قضايا النفوذ المتشابكة بين الرئيس الذي يتمتع بسلطات واسعة في النظام الأميركي المعروف بأنه نظام فيدرالي رئاسي تشريعي ديموقراطي جمهوري، وبين الكونغرس الذي يحتل، نظرياً، المكانة العليا في تراتبية مؤسسات السلطة، وفق الدستور الاميركي، ويملك السلطة على القرارات الداخلية، وإنشاء الجيوش وإقرار نفقاتها، ومراقبة صرف الأموال الحكومية، وإصدار كل القوانين «الضرورية والمناسبة» لتنفيذ السلطات التي منحها الدستور للرئيس والكونغرس والمحاكم الفيدرالية، إضافة الى إطلاق إشارة شن الحرب، وضبط توجهات الإدارة على الصعيد الدولي، وسوى ذلك من الصلاحيات المختلفة.
يفيد التدقيق في العلاقة بين الكونغرس والرئيس أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أرادوا أن تكون هيمنة الكونغرس أقوى من تلك المنوطة بالرئيس خشية ان يتحول هذا الأخير الى طاغية ينتهك الحريات، وذلك على رغم ان تاريخ الولايات المتحدة يعلمنا ان قوة الرئيس تزداد وقت الأزمة، لأن المشرّعين يتفادون في أثناء ذلك تحدّيه في شؤون أخرى، كي لا يتهموا بانعدام المسؤولية القومية. وبالمقدار نفسه، تضعف قوة الرئيس في فترة الهدوء وتزداد، في المقابل، جرأة المشرّع وتصميمه. وعبر التاريخ الاميركي، كان التنازع على الصلاحيات موضع مشادة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فأول عشرة رؤساء أميركيين تقاسموا السلطة مناصفة مع الكونغرس، ولم ينقضوا سوى المسائل المتعارضة مع الدستور. غير ان توالي العديد من الرؤساء الضعاف سهّل على السلطة التشريعية الهيمنة عليهم حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما حاول الرئيس غروفر كلفلاند توسيع سلطاته من خلال إبطال نحو 400 قرار من قرارات الكونغرس، لتكر السبحة بعد ذلك ويتعاظم دور الرئيس، ما حدا الكونغرس على تقليص صلاحياته عبر تعديلات دستورية، مثل «قانون الكونغرس لمراقبة الموازنة والمخصصات» (الصادر عام 1974) وقرار «سلطات الحرب» عام 1973 على خلفية حرب فيتنام و«قضية ووترغيت»، وذلك قبل حدوث «المجزرة» الدستورية والقانونية التي فرضها الرئيس الاميركي، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، على الكونغرس وانتزاعه من مجلسيه عدة قوانين وتشريعات أطلقت يد الأجهزة الأمنية والاستخبارية في التضييق على الحريات الداخلية ومصادرة العديد منها، ومنحتها الحق في اغتيال الشخصيات المشتبه فيها، بما في ذلك حق اغتيال رؤساء الدول.
وبعكس الاعتقاد الشائع، فإن ولاية ثانية في الحكم لا تضمن لرئيس الولايات المتحدة قوة غير محدودة. وتدل الولاية الثانية للرؤساء أيزنهاور ونيكسون وريغان، على انه أثناء التربّع على سدة الرئاسة أربع سنين أخرى في البيت الأبيض تبدأ قدرة الرئيس على تحقيق سياساته بالتراخي بالتدريج، فبينما كانت نسبة نجاح كل من أيزنهاور وريغان في إقرار تشريعات في الكونغرس في الولاية الأولى 89% و82% على التوالي، انخفضت النسبتان في الولاية الثانية الى 52% و50% فقط، ما يدفع الى التقدير أن كل رئيس يفوز بولاية ثانية يتحول بالتدريج الى «بطة عرجاء»، لأن دوره السياسي، وأهميته بالنسبة الى مستقبل المشرّعين، يأخذان بالتناقص مع مرور الوقت.
ومع أن الإدارة هي، في الواقع، المبادر الرئيسي والمنفذ الوحيد لسياسة الولايات المتحدة، لكن التطبيق الروتيني يعتمد على قرارات الكونغرس وتشريعاته. وفي يد الأخير السيطرة على الأداة الحاسمة لتطبيق هذه السياسة، إذ ترجع إليه عملية المصادقة على الموازنة أو خفضها أو تحجيمها أو تغييرها. وعندما حاول الرئيس جورج بوش الأب عام 1991 تجاهل مبادرة الكونغرس من أجل توثيق التعاون مع اسرائيل في الحرب على الإرهاب، هدّد المشرّعون بتجميد موازنة التعاون الدولي لمحاربة الإرهاب برمتها. وتراجع بوش، وتعمّق التعاون مع اسرائيل، وأجاز الكونغرس من ناحيته صرف الموازنة. وإن تعيينات الموظفين الكبار في الإدارة، بمن فيهم أعضاء الحكومة والسفراء ورؤساء الوكالات التابعة للإدارة، يجب أن يقرها الكونغرس، وهناك ضرورة لأغلبية، وخصوصاً من أجل إقرار المواثيق والمعاهدات الدولية. بل إن الكونغرس يمتلك صلاحية إضافة أذرع تنفيذية للإدارة أو إنقاص الأذرع القائمة، ومراقبة أداء مهماتها في المجالين الخارجي والداخلي، واستدعاء ممثليها والتحقيق معهم في أي وقت يشاء، وإلزام الإدارة تقديم تقارير عن طريقة تنفيذها للسياسة، والمبادرة الى وضع سياسات، والقيام بأبحاث في موضوعات دولية ومشاريع في مجال المساعدات الخارجية، والمبادرة الى اقتراح أو إلغاء صفقات عسكرية، وإصدار تعليمات بتطوير أنظمة تسليحية، وإنشاء أو إغلاق قواعد عسكرية، والمبادرة الى اقتراح أو إلغاء تدريبات عسكرية مشتركة مع جيوش أجنبية، وتقصير أو إطالة أمد تطبيق سياسة ما. ويوجد في يد المشرّعين سلاح الأساليب المعوّقة لتعطيل القوانين (filibuster) الذي يتيح للشيوخ «قتل» أي اقتراح قانون بإغراقه في ثرثرة لا نهاية لها، إلا إذا تمكنت الإدارة من تجنيد أغلبية 61% لإغلاق باب النقاش.
على أرضية هذه المعطيات التي توارت خلف حقيقة سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس السابق، وتوفيرهم الغطاء اللازم لسياسة إدارة بوش ومحافظيها الجدد، يمكن توقع مساكنة قلقة وصعبة وغير مستقرة بين الرئيس والسلطة التشريعية، وتحوّل الإدارة التي تجري محاولات ترميم شكلية لها، الى هدف لسهام المشرّعين والإعلاميين والخصوم السياسيين والشخصيين الذين ستزداد أعدادهم مع مرور الوقت، ولا سيما في ظل عدم اقتصار الفشل على مسألة العراق والخسائر الاميركية هناك، وامتداده الى القضايا والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المجحفة في حق الفقراء، وظهوره عارياً بعد الهزة العنيفة التي خلّفها إعصار كاترينا عام 2005 الذي دمر مدينة أورليانز وشرّد الملايين وعكس التجاذبات العنصرية والطبقية في الولايات المتحدة، وبعد ارتفاع معدلات البطالة الى 4,8 في المئة بسبب تراجع معدلات النمو، والإقفال المتزايد للمصانع، وانتقال بعض الصناعات الى دول آسيوية، الى جانب إغراق أسواق الولايات المتحدة المفتوحة بالبضائع الصينية الرخيصة، ما يعني انتظار عامين حافلين بالإشكاليات والاستعصاءات التي ستتلوى على إيقاع رزمة من المعطيات الداخلية والدولية، ولا سيما في ميدان الصراع الفعلي في العراق وفلسطين ولبنان، وجوارهم الإيراني والعربي وعموم الشرق الأوسط الذي يشهد تجاذبات وصراعات سيتحدد، في ضوء نتائجها، شكل الخرائط السياسية المنتظرة وطبيعتها.
* كاتب فلسطيني