العربي مفضال *
فسّر وزير الخارجية والتعاون المغربي، في حديث له أخيراً، أسباب عدم إقدام الرباط على التصديق على المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية. وأورد الوزير المغربي الذي الذي كان يجيب عن سؤال شفهي تقدم به الفريق الاشتراكي في مجلس النواب، ثلاثة مبررات تتعلق بما اعتبره أولاً تعارضاً بين المعاهدة ومبدأ الحصانة التي يؤمّنها الدستور لرئيس الدولة، وثانياً تعارضاً بين هذه المعاهدة ومقتضيات العفو والتقادم المعمول بها وطنياً، وثالثاً تعارضاً بين المعاهدة المذكورة ومبادئ السيادة القضائية المغربية.
واستقبلت الأوساط الحقوقية المغربية ما عبّر عنه السيد محمد بنعيسى بكثير من الاستغراب والاستياء، ورأت فيه خروجاً عن المسار الذي شقّه المغرب في السنوات الأخيرة حينما قرر تجاوز ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وأسّس لهذا الغرض هيئة للإنصاف والمصالحة ألقت الضوء على معظم تلك الانتهاكات وأوصت بجبر الأضرار الناجمة عنها، وتقدمت بعدة توصيات ترمي الى تحصين الحريات الجماعية والفردية، وتحول دون تكرار الانتهاكات الماضية. ومن بين هذه التوصيات المضمّنة في التقرير النهائي للهيئة، التي زكّاها الملك محمد السادس ودعا إلى تفعيلها، توصية تدعو الحكومة المغربية إلى التصديق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
وبالمقارنة مع ديباجة الدستور المغربي الحالي الملتزمة بصيانة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولياً. فإن تبريرات السيد بنعيسى التي تزعم وجود تعارض بين ما هو وطني وأممي لا تقوم على أساس... لأن منطوق الدستور المغربي في الالتزام بالمواثيق والاتفاقات الأممية المتعلقة بحقوق الإنسان شديد الوضوح. والمطلوب من المغرب أن يسارع الى تكييف قوانينه مع هذه المواثيق والاتفاقات.
والمثير في الأمر أن المادة 723 من قانون المسطرة الجنائية المغربي تنص بوضوح كبير على تغليب المواثيق والمعاهدات الأممية على القوانين المغربية في حالة التعارض بينهما.
وبالمقارنة مع حالات دول ديموقراطية عريقة وشديدة الحرص على سيادتها الوطنية... مثل فرنسا... فإن مبدأ الحصانة التي تضمنها هذه الأخيرة لكبار مسؤوليها وفي مقدمهم رئيس الدولة... لم يدفع باريس الى التلكؤ في التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. وتبدو الأسباب الداعية الى ذلك في غاية البداهة... لأن فرنسا لا تتصور أن يقدم رئيسها مستقبلاً على التورط في جرائم حرب وفي الجرائم ضد الإنسانية التي تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
ومن هذه الزاوية التي تنظر الى المستقبل... فإن حديث وزير الخارجية المغربي عن الحصانة يمكن أن يفهم على أنه نوع من الاحتياط إزاء انتهاكات جسيمة يمكن أن يرتكبها المشمولون بالحصانة الدستورية. وعلى أساس هذا التأويل الذي لا يبدو أن السيد بنعيسى تصوره أو فكّر فيه، يمكن أن يتحول الحديث عن حصانة المسؤولين المغاربة أمام المحكمة الجنائية الدولية إلى إساءة بليغة لهؤلاء المسؤولين الذين يتقدمون بخطوات جدية نحو تكريس حقوق الإنسان. ولقد بادر بعض الحقوقيين المغاربة إلى تطمين السيد بنعيسى عما سماه تعارضاً بين معاهدة المحكمة الجنائية الدولية ومقتضيات العفو الذي يمارسه الملك، ومقتضيات التقادم التي طالت عدداً من الانتهاكات. وأوضح هؤلاء أن التعارض المذكور غير موجود لسبب بسيط مفاده أن المحكمة سالفة الذكر لن تنظر في ما مضى، ولكنها ستنظر في ما سيأتي. وبالنسبة لما سيأتي من جرائم الحرب والعدوان... فإن عدم التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية لن يحمي المتورطين في تلك الجرائم، وبإمكان مجلس الأمن الدولي في إطار الفصل السابع من الميثاق الأممي ان يقرر متابعة المتورطين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
أما تعارض معاهدة المحكمة الجنائية مع مبادئ السيادة القضائية الوطنية فهو تعارض لا يقوم إلا في حالة تقاعس أو عجز القضاء الوطني عن ممارسة واجباته في محاكمة المتورطين المغاربة المفترضين في جرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية. وبعد تمحيص التبريرات التي قدمها السيد بنعيسى لتفسير تلكؤ الحكومة المغربية الحالية في مواصلة ما بدأته حكومة الوزير الأول السابق، الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي في التوقيع بالأحرف الأولى سنة 2000 على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية...
وبعد التأكد من عدم تعارض تلك التبريرات مع الدستور وقانون المسطرة الجنائية، ومع الواقع والنهج الذي يسلكه الملك محمد السادس...
بعد هذا وذاك... يطرح سؤال كبير نفسه، يتعلق بالأسباب الحقيقية التي تدفع المغرب إلى التهرّب من التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية...
وإذا تذكرنا الموقف الأميركي المناهض لتلك المعاهدة، وجهود واشنطن في دفع العديد من الدول الى الامتناع عن المصادقة على المعاهدة المذكورة، وتذكّرنا في الوقت نفسه حرص الرباط على كسب ود الأميركيين، وحاجتها الماسّة الى دعمهم لقضاياها الكبرى مثل قضية الصحراء الغربية... فإن من المرجّح أن يكون المغرب قد اعتمد مبررات واهية للتهرب من التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية لكسب رضى واشنطن، أو على الأقل لتجنّب غضبها.
* كاتب مغربي