سعد الله مزرعاني *
في نطاق توزيع العمل الذي انطلقت منه واستقرت عليه معادلة «الطائف»، أُسند الى سوريا دور الإدارة السياسية والأمنية. أما عملية «إعادة الإعمار»، كرمز لمشروع وتوجّه اقتصاديين، فقد أُسندت الى المملكة العربية السعودية، بشخص ممثلها آنذاك، السيد رفيق الحريري.
قدم الحريري نفسه، آنذاك، رجل أعمال لبناني نافذاً وناجحاً: في علاقاته بالأسرة المالكة السعودية (وخصوصاً بولي العهد آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز)، وفي حجم أعماله وثروته، و... كرمه غير المسبوق.
هذه المقدمة للقول إن الملف الاقتصادي ــ الاجتماعي قد أُوكل الى السيد رفيق الحريري، بالكامل، وخصوصاً عندما تسلم رئاسة الحكومة رسمياً عام 1992، بعد إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في الشارع (في السادس من أيار من العام المذكور).
وكانت عملية توزيع المسؤوليات تلك، جزءاً من تفاهم قضى، الى أمور أخرى، بعدم مساس سلطة الوصاية السورية بالنظام الاقتصادي اللبناني، بل وبمجمل النظام السياسي اللبناني. ولقد حافظ السوريون على «الأمانة» بحرص مشهود، لا بل إن النافذين الكبار والطامحين في النظام السوري، قد وجدوا في ذلك فرصة لتخطّي ما يقيمه نظامهم في دمشق، من عقبات أمام جمع الثروات وتكديسها، على نقيض ما هو عليه النظام الاقتصادي والمصرفي اللبناني، ووجدوا فيه فرصة لتأكيد استعدادهم للانفتاح الاقتصادي من ضمن حسابات متعددة سياسية واقتصادية، محلية ودولية..
وبذاك، بات «المشروع الإعماري» التجسيد المكرِّس لتلك المعادلة التي ربطت ما بين معجزة الحريري في نجاحه الشخصي السريع في تكوين الثروة والمؤسسات والعلاقات، وما بين «المعجزة» التي يتوق إليها السواد الأعظم من اللبنانيين، لتخطي ما خلفته الحرب من خراب وفقر وإعاقة وتحولات سلبية...
ونستدرك بأن ذلك لم يكن يعني أن ممثلي الإدارة السورية للبنان آنذاك، قد كانوا بلا تأثير، لكن تأثيرهم بشكل عام قد انحصر في جني المنافع الصغيرة أو الكبيرة، لا في تحديد السياسات.
وبناءً على هذا الواقع الذي يقرّ به الجميع، سواء من موقع الإشادة والتقدير، أو من موقع الاعتراض والرفض، كان الرئيس الحريري هو المسؤول عن تحديد السياسات الاقتصادية، وكان المسؤول عن مجمل النتائج التي أفضت إليها هذه السياسات. نقول ذلك ونحن نقر، بكل موضوعية، بأنه لم يكن مطلق القدرة في رسم الأقدار وصنع الأحداث. فثمة كثير من العوامل والمصالح التي تدخلت في مسار هذه العملية، وتركت تأثيرات كبيرة أو صغيرة، في هذا المنعطف أو ذاك، على سياساته ومشاريعه. لكن بالمقابل، فإن أدوار الحريري الأخرى، إقليمياً، كانت أيضاً عنصر مفاجأة (وتوازن أحياناً)، ما ولَّد اليقين بأن الرجل لاعب أساسي يتخطى دوره لبنان، الى ما هو إقليمي، وحتى دولي. وكان من شأن اتضاح هذه الحقيقة، تكريس دوره اللبناني الى الحد الذي أصبح اقتصاد البلد وماليته وعملته... على أشد الارتباط بشخص رفيق الحريري.
في سياق ذلك، يمكن القول أيضاً بأن حلفاء الحريري في السلطة لم يتجاوز دورهم في مجال السياسة الاقتصادية، دور «الشريك المضارب». فلقد تركوه يقرر ما يشاء وتركهم يقتطعون الحصة التي يريدون!
وحده الوزير فؤاد السنيورة كان في موقع آخر: كان في موقع الشريك، في الرسم والتخطيط غالباً وفي التنفيذ بشكل دائم... الى أن أصبح، بعد استشهاد الحريري وحصول ورثته على الكتلة الكبرى في المجلس النيابي، مكمّلاً لنهجه وبديلاً من شخصه في سدة الرئاسة.
يقول الرئيس السنيورة في مقدمة «برنامج لبنان الاقتصادي» الى «باريس 3» «إن لبنان مرهق بدين عام كبير جداً»، ويقر بأن هذا الأمر قد كان قائماً قبل حرب تموز الماضي، ويضيف: «مع نهاية عام 2006 أصبح دين لبنان يُحدد بـ40.5 مليار دولار، أي ما يقارب 180 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي». لن نجادل في الرقم (وهو في الواقع أكبر من 40.5 مليار دولار)، لكن من حقنا أن نستمع الى بعض الاستنتاجات حول أسباب هذا الواقع الخطير، وحول الأخطاء، لكي لا نمعن في الشيء نفسه، ويكون المستقبل غداً، كما كان «المستقبل» بالأمس! لا جدال في أن النتائج كانت كارثية ونتوقف عند بعضها:
ــ هاجر من لبنان بعد انتهاء الحرب أكثر ممن غادرها في أثنائها!! فحوالى مليون شاب تركوا لبنان، بشكل دائم، بين عاميْ 1992 و2003. وإذ يكتفي برنامج «الإصلاح» بالإشارة الى «هجرة الأدمغة»، لا «تُبشّر» السياسة «المستدامة» التي ستواصلها الحكومة، إلا بالمزيد من هذه الهجرة، لتشمل أكثر من 80% من الخريجين الذين يدخلون الى سوق العمل سنوياً.
ــ لقد أدت السياسة التي اعتمدت منذ مطالع التسعينيات، وتحديداً بين عامي 1996 و2003، الى تشريد 300 ألف مواطن وإقفال 80 ألف مؤسسة صغيرة ومتوسطة. كان ذلك بسبب الغياب الكامل لسياسة تشجيع الإنتاج الوطني في حقليه الأساسيين الصناعي والزراعي. ولقد استعيض عن الطبقة المتوسطة (التي كان ينبغي إنعاشها وبعثها والاستناد إليها، نسبياً، في السلطة الجديدة) والتي زالت أقسام منها، وانحدر قسم كبير مما تبقى الى جيش المعوزين والفقراء، بتعزيز الطائفية ودفعها الى مستوى «المذهبية السياسية» التي بلغت ذروتها منذ أواسط عام 2005، ولا نزال نعيش «نعمها» الى يومنا الحاضر!
ــ لقد جرى الدفع بسلبيات النظام السياسي ــ الاقتصادي ــ الطائفي الى مداها الأقصى: تطبيق مشوّه للطائف، تنكّر للدستور وخصوصاً في بنوده الإصلاحية، تحاصص الموازنة وثروات البلاد ومرافقها، الهدر والفساد والمحسوبية وإغراق الإدارة بالمحاسيب والأزلام، استتباع القضاء..
ــ يقدر رئيس «التجمع الوطني للإصلاح الاقتصادي» الدكتور إيلي يشوعي أنه لو أُحسن استخدام الأموال المتاحة بمختلف مصادرها، لأمكن تحقيق ناتج محلي بقيمة 50 مليار دولار: مثل هذه النتيجة كانت تتطلب نهجاً مختلفاً وأولويات مختلفة وإدارة مختلفة. فلم تكن المشكلة فقط في المديونية، وفي الفوائد الفلكية(!)، كانت أيضاً في خطأ الرهانات السياسية على تسوية وشيكة في المنطقة، وخطأ الأولويات المرتبط بذلك والافتقار الى العمل بذهنية العمل التأسيسي الإنقاذي الذي كانت تحتاج إليه البلاد... ولا تزال!!
ــ يضع الرئيس السنيورة اللبنانيين أمام معادلة تعجيزية: المستحقات الواجبة التسديد عامي 2007 و2008 هي حوالى 16 مليار دولار. الحل بزيادة الضرائب وتخصيص الأساسي في أصول القطاع العام. ذلك هو جوهر «الإصلاح» الذي يصف البرنامج أن مرحلته الحاسمة الأولى كانت في الضريبة على القيمة المضافة.
ــ لا يعبأ «البرنامج الإصلاحي» بضرورة تطوير القطاعات المنتجة وإن كرر من دون ملل عبارة «تحفيز» النمو وزيادته. لا يهتم أيضاً بالنتائج السياسية لانعدام دور الدولة في بلد تتناتشه الدويلات والولاءات الخارجية. إلا أنه يُسجل للسنيورة وفريقه أنهما أكثر حداثة، أي أكثر التزاماً بالمفاهيم النيوليبرالية وبوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، الى حد ترديد العبارات عينها ومنها «الحكومة» و«الحكم الرشيد» و«المستوى المستدام»؟؟
«باريس 3» قبل هذا وبعده، محطة سياسية يُراد لها أن تكون حاسمة في دعم حكومة السنيورة لنقل لبنان الى «محور الاعتدال»، في كنف المشروع الأميركي الناشط للسيطرة على المنطقة وثرواتها بوسائل الغزو والقواعد العسكرية وبمزاعم التغيير والديموقراطية. إنه تتمة مشروع لإقامة وطن فاقد لمقومات الأوطان: في بناه ومرتكزاته وسيادته واقتصاده وعلاقاته!
* نائب الامين العام للحزب الشيوعي اللبناني