أمين محمد حطيط *
يكاد يكون الحديث عن فتنة طائفية أو مذهبية في لبنان، موضوعاً رئيسياً لأي نقاش أو حديث فيه، ونجد فئة من المتابعين تسلم بوقوعها، وما المسألة إلا مسألة وقت فقط، وفئة تقطع بعدم إمكانية حدوثها لانتفاء المادة وعجز «الأداة المناسبة» لإضرام نارها... أما الثالثة فهي فئة «المرجئة» في الموقف التي تنتظر الاستراتيجيا الأميركية الجديدة للشرق الأوسط لتحدد موقفها من الأمر.. فما هي الاحتمالات الواقعية للفتنة، وأهدافها.
بداية لا بد من أن نقول إن الفتنة لا تكون أمراً مطلوباً بذاته، بل تكون معبراً لأمر يرغب صاحب المصلحة فيه، ويرى حاجة الى نار أو دخان تشغل أو تعطل أو تحيّد... لتفتح الطريق أمامه الى أهدافه... ويتخذ الموقد عادة في المكان الذي تتوافر فيه ظروف الإشعال، والقدرة على استمرار النار للوقت اللازم لإنجاز الأهداف... وفي واقعنا اللبناني نعلم ان حيزنا الجغرافي هو جزء من مسرح استراتيجي متكامل اعتمدته أميركا لتحقق عبره أهدافاً حيوية أساسية لها في سياستها كلها، ولا يمكن ان نقرأ شيئاً في لبنان منعزلاً عما يجري في ذاك المسرح الكبير حيث يحتد الصراع الدامي في أجزاء ثلاثة منه: أفغانستان، العراق، فلسطين، والمواجهة الشرسة بالسلاح البارد حتى الآن (الدبلوماسية والسياسية) في أجزاء ثلاثة أخرى: لبنان، سوريا، وإيران، ومن المنطقي ان نقول ان قائد المسرح ــ أميركا ــ يعتمد في هجومه في الحالين الخطة المتكاملة التي يخدم بعضها البعض الآخر. وينقل جهده من هذا الجزء الى ذاك، أو يقدم الأولوية من هذا الملف الى ذينك، وفقاً لما يحقق من نتائج المواجهة، ولما يمتلك من قدرات المتابعة... وبهذا المنطق نفهم كيف ان ملف لبنان تقدم في السنتين الأخيرتين على ما عداه، حتى بات اسم لبنان يردد على شفاه المسؤولين الأميركيين «كصلاة وطنية يومية» واعتبر الشأن اللبناني جزءاً من الأمن القومي الأميركي، إذ نجد السبب مقترناً بتعثّر في مواطن أخرى من المسرح... لذا اتخذت أميركا من لبنان أداة تغيير لنتائج صراعها تلك وخاصة في العراق، فنجحت في البدء عندما أقامت حكومة التبعية والالتزام بالأوامر الأميركية في لبنان، لكن حرب تموز 2006 قلبت النجاح الأولي كارثة استراتيجية على المقرر (أميركا) والمنفّذ (اسرائيل) معاً.. حرب تعانقت نتائجها مع استمرار الإخفاق ونزف الدم الأميركي في العراق فكان البحث عن استراتيجيا أميركية تعوض الفشل وتحدّ من الخسائر، استراتيجيا يُنتظر إعلانها وتنفيذها في الأيام المقبلة. وسيكون للبنان فيها محل من غير شك ولكن كيف؟
إن من الخطأ الظن أو حتى التفكير في أن أميركا هي بصدد الانسحاب من العراق أو من الشرق الأوسط (عسكرياً، سياسياً)، لذلك استراتيجيتها الجديدة لن تكون برنامج انسحاب شامل بل تغيير في الخطط لتحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها، وإن اقتضت عملية التغيير هذه تغييراً في الأدوات والوسائل، فلن تتأخر أميركا في الاستبدال... أو إن اقتضت تغييراً في الأسلوب فلن يردعها مبدأ قانوني أو أخلاقي عنه... لأن الذي يسيّر أميركا هو المنفعة أو المصلحة أولاً وأخيراً (مصلحتها ومصلحة اسرائيل طبعاً).
ويقودنا هذا المنطق الى السؤال عن علاقة ذلك بفتنة في لبنان، ونسارع الى الإجابة بأن أميركا التي امتلكت قرار لبنان عبر امتلاك ناصية حكومته باتت ترى أداة معطلة عاجزة عن أي مهمة، حيث نجحت المعارضة الوطنية في تقزيم هذه الحكومة وشلّها في مواجهة سياسية وطنية قلّ نظيرها..... من هنا نفهم خلفية المواقف المتخذة بإملاء أميركي لإسقاط الصفة الوطنية عن المعارضة واعتبارها فئوية شيعية من جهة، واعتبار الفريق الآخر فئة سنية، ثم تظهير الصراع على أنه سنّي شيعي.. لتحضير الأرضية الصالحة لنار الفتنة... فتنة قد يحتاج إليها المشروع الاميركي لتغطية الفشل في لبنان أيضاً، إذا لم يستطع المخطط ان يعوض الأمر بوسيلة أخرى... لكن هذه الفتنة ستكون حاجة أكيدة لأطراف لبنانية اعتمدوا على أميركا لتأدية دور في السلطة يفوق حجمهم الحقيقي أضعافاً مضاعفةً وهو حجم سيضمر عند التغيير (تجربة أميركا مع عملائها في العالم لا تخفى على أحد فهي تترك وتمضي الى مصلحتها في الموقع الجديد)، ما يعني ان الذين استُعملوا من جانب أميركا في السنتين السابقتين، بدأوا يشعرون بتغيير قريب في لبنان لن يبقيهم في مقاعدهم الفضفاضة... لذا تراهم مندفعين لاختلاق حدث يحجزون عبره المقعد في المشهد الجديد... ويرون ان ذلك لا يكون إلا عبر فتنة يزرعونها بين الكتل الكبرى فتتصادم، وتتعطل قواها تبادلياً فتأتي الكتل الصغيرة التي يمثلون لتتربع على عرش الإمرة والنفوذ. من جديد.. لأنهم يعلمون ان الصغير لا دور له عند اتفاق الكبار، وتكون الحاجة إليه قائمة عند التناحر.... ونجد في التاريخ ان دأب الصغار تعطيل حلول الكبار للاستفادة ولأطول مدة ممكنة من فرص «الدلال والنفوذ»... بهذه الخلفية يفهم المراقب المواقف الصادرة عن هؤلاء وقد أصبح شغلهم الشاغل اليوم التحريض والاستفزاز.
قد تجد أميركا أن فتنة سنية ــ شيعية في لبنان قد تلزمها في خطتها المستقبلية، وقد لا تكون لازمة، أما فرقاء الداخل المستغنى عن خدماتهم والمحبطون اليائسون، فقد لا يرون بداً من فتنة «تحييهم»، ودأبهم في التاريخ معروف عبر ما اعتادوه من انتهاك حرمة بيت عبادة، أو قتل رجل دين، أو زعيم سياسي... أو الاعتداء على جماعة من طائفة ما لإحداث مجزرة أو مذبحة، أمور ترتكب فتستوجب الرد بنظرهم.. وتضرم النار... لذا هم يحاولون إنقاذ أنفسهم فهل سيستطيعون؟
من حسن حظ لبنان أن دعاة الفتنة محدودو القدرة على النجاح حيث إن الفتنة الإسلامية المسيحية صعبة الوقوع بعدما قطع الطريق عليها تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر وهي لن تحقق الأهداف المرجوة إذا حدثت لأنها استنفدت فعاليتها في السنوات الثلاثين الماضية، لذلك نجد التركيز على فتنة سنية شيعية يُرى نجاحها أضمن في وسط شرق أوسط متوتر، قد تمتد النار إليه، فيكبر دورهم أكثر... ولكن حتى اللحظة لا يبدو ان الفتنة هذه ممكنة التحقق أو الاستمرار لمناعة عند الطائفتين ومع ذلك فإن الحالمين بالفتنة يستمرون في سعيهم، علّهم ينجحون..... لا تثنيهم عن المحاولة بشاعتها ووقوف دول عربية يدّعون صداقتها كالسعودية مثلاً ضدها لما فيها من ضرر عام وخاص عليها أيضاً. إن محاولات الفتنة مستمرة، وقطع الطريق عليها يجب ان لا يتوقف، وإننا نطمح الى تشكل حالة وعي عام وحيطة شاملة، تحصّن وتحمي كل هدف محتمل أن تنطلق من استهدافه شرارة فتنة، وتمنع الرد والاستدراج إن حصل، ونهيب بالأجهزة الأمنية والعسكرية وخاصة الجيش اللبناني بقيادته المُجمع على الثقة بها، أن تتخذ كل تدبير ممكن لحماية الأشخاص والنقاط الحساسة التي ذكرنا لمنع النيل منها، مذكّرين بالتعقل في الخطاب السياسي بعيداً من التجييش الطائفي، ونتمنى ان يلاحق القضاء اللبناني كل مخالف عملاً بأحكام قانون العقوبات النافذ في لبنان. وهنا لا بد من السؤال عن مدى الحصانة النيابية، وهل تحمي المحرّضين على الفتن الطائفية؟ أو المهددين بالقتل؟ أو المستهزئين بالمقدسات الدينية؟ إننا نعتقد مع رجال القانون أن الحصانة لم توجد لمثل ذلك.
* عميد ركن متقاعد وباحث استراتيجي