إياد مسعود*
تسبب قضية اللاجئين الفلسطينيين قلقاً دائماً لإسرائيل، هو أقرب إلى الصداع المزمن. وتطالعنا الصحف العبرية، بمناسبة أو بدون مناسبة، بمقالات تتناول هذه القضية ومخاطرها على مستقبل الدولة اليهودية من وجهة نظر صهيونية. ويلاحظ في هذا السياق أن الكُتّاب والباحثين الإسرائيليين، وهم يتناولون هذه القضية، يجمعون على تنبيه المفاوض الإسرائيلي إلى ضرورة إدراج هذه القضية على جدول أعمال التسوية الدائمة مع الفلسطينيين لكونها مفصلاً رئيسياً لا يمكن تجاوزه أو تجاهله أو التقليل من مخاطره، وكذلك ضرورة دفع الجانب الفلسطيني، قبل الاتفاق على أية قضية، لإعلان تخليه عن حق العودة وإغلاق هذا الملف مرة واحدة وإلى الأبد، والتعهد بعدم إعادة فتحه مرة أخرى على قاعدة أن لا مطالب فلسطينية جديدة في هذا الشأن بعد الآن. ويشير هؤلاء في كتاباتهم إلى فشل المراهنة على عامل الزمن للخلاص من قضية اللاجئين وأعبائها. كما يلاحظون أن وفاة أبناء الجيل الفلسطيني الذي خرج من بلاده، وهو يحمل ذكرياته عنها، لم تنجح في شطب هذه القضية من أذهان الأجيال اللاحقة واهتماماتها، بل إن معهد ريئوت الإسرائيلي، يلاحظ في تقرير له أن تمسك الأجيال الفلسطينية الشابة بحق العودة إلى الديار والممتلكات في مناطق 48، هو أقوى مما هو عليه لدى كبار السن في صفوف اللاجئين، وأن اعتقادهم بحتمية العودة، بات أكثر رسوخاً مما كان عليه منذ سنوات. كما يلاحظ التقرير أن الأجيال الشابة هذه، على خلاف الآباء والأجداد، نجحت في استعادة القضية من بين أيدي المفاوض الفلسطيني، من خلال تشكيل لجان الدفاع عن حق العودة وقيام حركة جديدة في صفوف الفلسطينيين يمكن أن نطلق عليها اسم <<حركة اللاجئين>>. كما يلاحظ أن إمكان تخلي المفاوض الفلسطيني في أية مفاوضات مقبلة، عن حق العودة مقابل الدولة الفلسطينية، بات أكثر تعقيداً. ويرى المعهد أن اللاجئين الفلسطينيين، وهم ينظمون أنفسهم، باتوا قوة لا يستهان بها في الحركة السياسية الفلسطينية، وأن نشاطهم لمصلحة حق العودة بدأ يخترق تجمعات الفلسطينيين في كل مكان، بما في ذلك على سبيل المثال بلدان أميركا اللاتينية، حيث يقيم الآلاف ممن هم من أصول فلسطينية، كان موقفهم من القضية لا يتعدى التعاطف العام، وقد بدأ الآن يتخذ أشكالاً شبه منظمة، تمهد لقيام حركة سياسية فلسطينية في هذه المناطق، عنوانها الدفاع عن حق العودة.
ولا يقلّ المشَرع الإسرائيلي عن مراكز البحث اهتماماً بقضية اللاجئين الفلسطينيين، وإدراكاً لما يعتقده خطراً على المشروع الصهيوني. لذلك بادر الكنيست إلى سن قانون، هو الوجه الآخر لقانون حق العودة اليهودي، نص على منع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مناطق 48، في خطوة أراد منها الكنيست قطع الطريق على أي تنازل يمكن أن يقدمه المفاوض الإسرائيلي، في هذا الجانب، في أية عملية تفاوضية. ويصبح بالتالي الاعتراف بحق العودة مخالفة للقانون يعاقب عليها صاحبها، لا مجرد موقف سياسي أو مجرد وجهة نظر. وقد أثار قرار الكنيست هذا ردود فعل سلبية، لدى بعض الدوائر الإسرائيلية من موقع تكتيكي ليس إلا، إذ رأت فيه خطوة متعجلة، من شأنها أن تضعف المفاوض الإسرائيلي، إذ تضيق أمامه هامش المناورة التفاوضية، في مواجهة المفاوض الإسرائيلي. ومع ذلك بقي الكنيست على موقفه. على الصعيد الفلسطيني، يلاحظ أن المفاوض لا يخفي استعداده للتخلي عن حق العودة والمقايضة بينه وبين الدولة المستقلة، وإذا كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد مارس سياسة <<الغموض البناء>> إزاء هذه القضية واعتمد خطابين في رسم موقفه منها، خطاب يدغدغ به عواطف الشارع الفلسطيني، فلا يتناول صراحة حق العودة، وخطاب يتوجه به إلى واشنطن وتل أبيب، يلوح لهما فيه بورقة اللاجئين وحق العودة، للمقايضة بينها وبين الدولة المستقلة، فإن خلفه على رأس السلطة محمود عباس لم يتردد في كشف أوراقه، حتى قبل وصوله إلى كرسي الرئاسة. إذ افتقر برنامجه الانتخابي لأي ذكر لحق العودة واكتفى بالدعوة إلى «حل عادل لقضية اللاجئين متفق عليه بموجب القرار194». وإذا ما وردت، بشكل أو بآخر، عبارة «حق العودة» على لسانه، فإنها تكون، حسب تعريفه لها ــ إلى «الوطن». والوطن، هو أيضاً حسب تعريف أبو مازن له، الضفة الفلسطينية وقطاع غزة. أما تفسيره للقرار 194 فلا يتجاوز التمسك بالحق في التعويض (بديلاً للعودة). هذا ما ذكره واضحاً في احتفال جامعة النجاح، مطلع شهر تموز (يوليو) الماضي، وفي خطابه الأخير في المقاطعة في 16/12/2006، حين دعا لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة.
أما السلطة التشريعية الفلسطينية، ممثلة بالمجلس الوطني على مستوى منظمة التحرير، وبالمجلس التشريعي، على مستوى السلطة الفلسطينية، فإن موقفها، في سياقه العام، لم يتنازل عن حق العودة، لكنه لم يرتق إلى درجة القانون الملزم للمفاوض الفلسطيني (على غرار القانون المعاكس الذي أصدره الكنيست). وقد أوضحت التجربة أن السلطة التشريعية الفلسطينية، تخضع في المنعطفات، لنفوذ السلطة التنفيذية. لذلك، تحت ضغط مؤسسة الرئاسة، فشل المجلس التشريعي السابق، على سبيل المثال، في اتخاذ موقف عملي من بعض أعضائه الذين شاركوا في التنازل عن حق العودة عندما وقّعوا على «وثيقة جنيف ــ البحر الميت». ولعل واحداً من الأسباب التي تقف خلف تعطيل محمود عباس عملية تفعيل مؤسسات م. ت. ف. هو رغبته بعدم إحياء المجلس الوطني الفلسطيني حتى لا يشكل قيداً على حركة المفاوض الفلسطيني، تحديداً بما يتعلق بقضية اللاجئين، وخاصة إذا ما تشكل المجلس الجديد بالانتخابات (لا بالتعيين) وكانت حصة اللاجئين (كما يفترض أن تكون) طاغية، وكان تمثيلهم فيه انعكاساً صادقاً لتمسكهم بحقهم في العودة. وهو ما يدفعنا للقول إن قضية اللاجئين، حين توضع على طاولة المفاوضات، من شأنها أن تعيد خلط الأوراق، والتحالفات، والانتماءات السياسية الفلسطينية، بحيث يتوقع أن نقف أمام خارطة فلسطينية مغايرة تماماً لما هي عليه الآن.
* كاتب فلسطيني