خليل أحمد خليل *
I
جماعة

* ليس سهواً أن يكون لبنانيون، مثلكم، على حدود مع آخر، عدو، بالقوة وبالفعل. عدو اختار ان يكون على أرضكم عنوة، بعنف دائم، بقتل متواصل، بحرب لا تنتهي إلا بحرب أخرى. جيلنا، وحده، المولود في قلب الحرب العالمية الثانية، عاش على إيقاع حروب إسرائيلية ــ غربية متواصلة: 1948، 1956، 1967، 1978(احتلال جزء من الجنوب)، 1982(اجتياح حتى قلب لبنان، الجبل وبيروت)، ثم مقاومة ثانية، دائمة بدوام الاحتلال، 1996، 2000، 2006... هذه ليست مجرد أرقام في معاجم، لأناس من ورق. إنها محطات حية في تاريخ جماعة شاءها الله أن تكون جزءاً من بلد بلا تاريخ قيامي، وان تكون عضواً في أمة كبرى، عربية، مهانة غير مرة عسكرياً بسبب بؤس انقيادها السياسي، وأخيراً، ان تكون روحاً لأمة، إسلامية، بلا تحقق إلا في المتخيل.
السهو هنا هو ان يُنسى كل هذا عن هذه الجماعة المعذبة في أرضها، على حدودها، وفي دولتها التي ترى حكامها ولا ترى مواطنيها، كما هم، حيثما كانوا، في الموطن، الوطن، أو في منافي الانتشار. من لبنان بقيت هذه الجماعة الصراطية، المعاندة بالحق، الممانعة للعدوان. هذه الجماعة، المشرقة في كفاحها وجهادها مدى القرن العشرين، ليست طائفة ولا مذهباً، كما يشاع الآن، في الخطاب السياسي الهستيري أو التآمري. إنها روح أمة، غير مفصّلة على قياس أحد من الحاكمين وأنظمتهم. الروح هنا بمعنى «المعنى»، أي القوة، قوة الصبر على الشدائد، وقوة المقاومة بالعقل، وبالدم، وبالسلاح... بالصمت، وبالكلام... بكل شيء وشخص.
II
كلام الأربعاء
* 12 تموز 2006. صور تستيقظ كعادتها. بيروت لا تراها ولو من بعيد. مع ذلك، هاتفتني أم هشام من قصر عين التينة: «المقاومة أسرت جنديين اسرائيليين. الفرحة عامة في الضاحية وسواها». لم نكن وقتذاك على السمع. ثم أخذت مونت ــ كارلو بفلاشاتها. مقابلة مع عسكري في تل أبيب: «سنرى غداً مَنْ سيفرح أكثر!». «أجمل التاريخ ما كان غداً...» حلم الشاعر الكبير سعيد عقل، الذي باع «حلمه» هذا للعدو عام 1982. عاودتني أم هشام: «نسفوا جسر القاسمية...» «... تعالوا الى بيروت مع هشام». غادرت مكتبي في صور الى حيث هشام وخالته، نجوى. الشارع لم يتأثر. المحال مفتوحة. السيارات في حراك. تذكرت دعاء أدونيس: «مسافر دونما حراك. يا شمس من أين لي خطاك!» وتسارعت الخطى وسط أناس من حلم ودم، لا يخافون شيئاً، فيما طائرات العدو تهز فضاء الوطن... حين وصلت، لم يسألني هشام عما يحدث، ولا متى سيعود إلى أمه. سألني عما إذا كنا سنذهب هذا اليوم الى صخرة البقبوق للسباحة، كما فعلنا في الأيام السالفة. أمام الموت، لا يجد الكبار أجوبة لصغارهم. مع ذلك أوهمته أننا سنفعل. وفعلنا أشياء أخرى. أوقفني هشام فوق عربة، وطلب مني أن أقطف عنباً، له ولجميع مَنْ أخذوا يتوافدون إلى مستودع المبنى. ملأنا كيساً كبيراً من عنب الجنوب، الأبيض، الأحمر، الأسود. مستودع سنتر سمحات تحول مع أيام الحرب الى مستودع حشر، ناف عدد نزلائه أرضاً، أكثر من مئة وخمسين شخصاً. عائلات بكاملها. عجّ المكان بالأطفال الذين لم يتأخروا عن اللعب بسمّ الجرذان. التلفزيون، على محطة «المنار» شغّال ليلاً ونهاراً فقط. لا يثقون إلا بالمنار وبمن وراءها. لماذا؟ ليس للثقة «لماذا؟». هناك عمامة سوداء تنضح فجراً، قالت امرأة. وأضافت أخرى «فداه وفدا أجداده...». وحدة يقرر متى سنخرج من المستودع. كانت الصور المنقولة والأخبار المتناقلة، على لسان كل وافد جديد، تفوق المتخيل السياسي.
ظل كلام الأربعاء يتواصل مدى كل أيام الحرب. ولكن العنف العدواني المشهود، والمسموع والمعيوش، تجاوز كل المألوف في حروب سابقة. ولكم عانى الجميع، هنا، في مستودع الحشر، من اكتئاب وضغط وانهيارات... لكنهم لا يلبثون ان يسترجعوا، ويهرعوا الى الميضأة الوحيدة في المستودع، فيقيموا صلاة على صلاة، داعين بنصر(ه) ونصر(ها)... وتواصل النساء مع الرجال إعداد طعام لهذه «الأخوية» الجديدة، بعدما أزيل من المستودع سم الجرذان، واعتاد الجميع النوم بملابسهم، النساء على حدة، والرجال على حدة أخرى، والأولاد بين بين ــ كما كان هشام يفعل، تارة مع نجواه وتارة مع خليله، وخصوصاً بعدما بلغت صدمة الحرب والقصف ذروتها، فصارت رؤوس الأطفال عاجزة عن استيعابها: «جدو، خذني الى مكان آخر... راح ينفجر راسي!» وينهار في بكائه، كما انهار الى جانبه رجال ونساء. ويذهب آخرون الى «لعب الورق»، بعد تلاوة قرآن وأدعية. سقط صاروخ، فآخر، بالقرب من مستودع الحشر. لكن الجميع كان واثقاً من اقتراب الساعة. القيامة.
III
لمن؟
* تتوالى الإنذارات المعادية بترك جنوبي الليطاني. لمن؟ يظن العدو أن الباقين سيتركونه له، فيقيم عليه حدوداً بين الوطن والاحتلال. لكن الموطن أساس الوطن. هذه الجماعة المقاومة هي أساس المجتمع. الدولة؟ لم تكن في البال. وحدها المقاومة استحوذت على الجميع في مستودع الحشر. لا بعصبية جديدة، ولا بأصولية إسلاموية، ولا حتى بثواب ما. في ثيابهم كان الناس يتجمّعون في مستودع الحشر، تاركين الدنيا وراءهم، واثقين مما ينتظرهم: الانتصار بالشهادة. لا أحد كان يعرف مدى قوة المقاومة. ما يعرفونه هو ان المقاومين رجال خفاف، نظاف، تهذيبهم الروحي أرقى وأشفّ من أجسامهم. رجال نفوسهم، هذه المرة، في أفواه بنادقهم ــ بعد سيوفهم ــ وفي أشداق مدافعهم وعلى براكين صواريخهم. مولودون جدد لأمة متجددة. «نحن نقاتل عن الأمة... وللأمة». كثير من الأميين إسلامياً لم يفقهوا كلامه. كلام أممي إنساني، مقابل كلام طائفي/مذهبي، لاإنساني. عنصري؟ ربما. جماعة صغيرة، مليون من ألف ومئتي مليون، على رقعة أرض محذوفة، مرقطة بالدم منذ أكثر من نصف قرن، تواجه وحدها حرباً أتونية، غير مسبوقة في المنطقة. جماعة مؤمنة لا ينال من عزيمتها جور ولا عدو جائر. جماعة الأمة، اللامشكّلة كلياً في دولة، تهزم العدو وحدها. في المستودع، لا يُسأل: كيف؟ بلا كيف، يواصل الأولاد مع هشام نشيدهم: «الله، نصر الله... الضاحية كلها...». والقصف لا يتوقف، على قوة الدعاء: «الله يدمرك يا اسرائيل»! في مستودع الحشر لا يخالجهم ريب بأنه «سيدمرها» على مراحل. حرب 12 تموز مرحلة في حروب أطول وأعنف. بلا دولة، كان المجتمع الوطني اللبناني يتكامل ويتفاعل لإقامة مجتمع جديد. بأفق دولة جديدة، غير دولة الآكلين شعبهم. في المستودع، أخذ الطعام ينفد، فكانت كرتونات البطاطا كافية لإطعام مئة وخمسين نفساً تحت حافة الموت. في المدينة، كان أبو ظافر لا يتردد في إيصال الخبز والطعام الى طالبيه. فرض على عدة أفران ان تعمل. وفّر لها المازوت والطحين، وبنفسه كان يوصل الخبز الى بيوت الصامدين. إنه حقاً رأس مدينة، لا رئيس بلدية وحسب. يكفيه انه كان مقاوماً بعمله اليومي، مدى 33 يوماً، بين مقاومين آخرين، بالسلاح وبالجراح ــ ولا سيما في مشفى جبل عامل ومشفى صور الحكومي ومشفى نجم. في المستودع لم نر ما فعله الأطباء البواسل، بلا مقابل، هم لا ينتظرون أيضاً ثواباً على مقاومتهم. المقاومة هي الثواب بذاته.
IV
وديعة المقاومة
* بتوقف الحرب التي لا تنتهي إلا بنصر كامل في فلسطين والعراق ولبنان... بدأ التجاسر على سلاح المقاومة، هذه الوديعة، أو الأمانة، التي لا يطالب بنزعها سوى عدو، وخائن، أو «مهبول». الوديعة هي التي جعلت خروجنا ممكناً من المستودع، وجعلت عودة الجميع الى ديارهم آمنة وفورية. وفوق ذلك، شهداء المقاومة والأهالي، جرحاهم، مرضاهم أغلى بكثير مما لحق بأرزاقهم من دمار مبرمج. في حرب 12 تموز مات وهم العدو، لكن وهم المتعاملين معه لم يمت على الفور. ماذا يهمّ مصدر سلاح المقاومة، من السوق العالمية، من دمشق، من طهران، من...؟ ماذا يهم. ليس مقدساً بذاته. لكنه يتقدس بأيدي حامليه الشهداء بالقوة. السلاح وديعة مقاتلين، مؤمنين، لا يرتجون من الدولة ثواباً ولا جزاء. عقاب؟ هذا ما فهمناه قبل الخروج من مستودع الحشر الى وديعة المقاومة. الحرب لم تكن عقاباً. كانت شهادة. وكفى الخونة والعملاء ما قاله فيهم بدر شاكر السيّاب: «إني لأعجبُ كيف خانَ الخائنون؟
أيخونُ إنسانٌ بلادَه؟
إنْ خان معنى أن يكون،
فكيف يُمكن أن يكون».
* كاتب لبناني