بولس الخوري *
أن تختلف الآراء والمواقف في بلد يدين بالديموقراطيّة، ذلك أمر طبيعيّ مقبول. إذ لكلّ مجموعة طائفيّة أو حزبيّة نظرتها الخاصّة إلى ما يبدو لها أنّه يصبّ في خير الوطن. ويُفترَض في الآراء والمواقف المختلفة أنّها تصدر عن اعتبار الخير العامّ لا المصلحة الفرديّة، ذلك أنّ لكلّ فرد دوافعه ومقاصده الخاصّة. ومن البديهيّ أنّ الدوافع والمقاصد الخاصّة غالباً ما تتناقض، لكونها تحكمها الأهواء. لذا وجب، في مقابل هذه الآراء والمواقف المختلفة، أن تكون آراء ومواقف تستلهم، في دوافعها ومقاصدها، إرشاد العقل، على افتراض أنّ العقل هو مشترك بين جميع أفراد المجتمع الواحد وفئاته. تلك هي العبرة التي يمكن استخلاصها من نظريّة روسّو في الديموقراطيّة، وفي ممثّلي الشعب، وفي الإرادات الخاصّة والإرادة العامّة، وفي القبول برأي الأكثريّة لأنّه ليس من معيار آخر ينوب مناب العقل، وفي استفتاء الشعب عند عدم بروز الإرادة العامّة.
يفترض روسّو أنّ الذين اختارهم الشعب وارتضاهم ممثّلين له، متى اختلفت آراؤهم، كان عليهم أن يتحاوروا. ففي التحاور لا بدّ من أن تلتقي الآراء المختلفة على مواقف مشتركة. إذ إنّ الاختلاف كان من اختلاف الأهواء والدوافع والمقاصد الخاصّة، وإنّ الاتّفاق صدر عمّا في المختلفين من عقل مشترك يشير إلى الخير العامّ. أمّا إذا لم يتوصّل المتحاورون إلى اتّفاق، كان عليهم إذّاك أن يلتزموا رأي الأكثريّة على افتراض أنّ الأكثريّة قد تعبّر عمّا يحكم به العقل فيكون هو الإرادة العامّة. وفي بعض الأمور كان عليهم أن يعودوا إلى الشعب في شكل استفتاء عامّ تكون فيه للشعب الكلمة الفصل. في نظريّة روسّو هذه في ممارسة الديموقراطيّة، لا مكان للمجابهة أو لأيّ موقف قد يتّصف بالعنف أو العدائيّة أو التشبّث بالرأي الخاصّ أو الاستبداد بالحكم بحجّة أكثريّة غير مؤكَّدة، إذ إنّ مثل هذه المواقف المتشنّجة لا يمكن أن تصبّ في الخير العامّ، بل على عكس ذلك قد تأتي على وحدة المجتمع وبالتالي على وجوده.
الحوار إذاً هو ما يراه روسّو في أساس الممارسة الديموقراطيّة. وقد يرى بعضهم اليوم، ومنهم خصوصاً هابرماس، أنّ المجتمع يبقى قائماً، على الرغم من اختلاف الآراء والمواقف، متى كان الاختلاف يُسوّى بما يسمّيه Diskussion أي مناقشة أو محاورة تكون فيها المقارعة بالحجج والدلائل والبراهين العقليّة، فتؤدّي إلى الإقناع والاقتناع. أين نحن اليوم في لبنان من هذه الممارسة الديموقراطيّة؟ المشهد ظاهر للعيان. الخلاف قائم إلى حدّ التشنّج والتشبّث بالرأي، والامتناع عن الإصغاء إلى الآخر، ورفض النظر العقليّ الرصين الهادئ إلى الرأي المخالف، والاستئثار بالسلطة. فلا نرى حواراً ولا مشاورة ولا لجوءاً إلى استفتاء شعبيّ يكون فيه الحلّ المنشود للأزمة. ويبدو أنّ الأزمة بلغت حدّاًَ صار فيه المجتمع والوطن على شفير الانعدام. لعلّ ذلك يعود إلى تأثيرات خارجيّة وارتباطات بمصالح ليست من مصلحة الوطن في شيء. لا ضير في العلاقة بدول قد يستعين بها الوطن ليقوم ويزدهر، شرط أن لا يكون ثمن ذلك انتقاصاً من سيادة الوطن وكرامة المواطنين. ولعلّ ذلك أيضاً يعود إلى إرادة فرض الرأي الخاصّ، ولو كان على حساب الخير العامّ، لكون هذا الرأي الخاصّ يبدو ضروريّاً لبقاء زعامة الزعماء. وهذا ليس من الديموقراطيّة في شيء. «يا جماعة»، ليتكم تتعقّلون! ليس لأحد منكم أن يعتقد ــ ويفرض اعتقاده ــ أنّه هو وحده دون سواه على حقّ بالمطلق. كلّ إنسان قد يخطئ. وكلّ إنسان قد تجرّه أهواؤه ومصالحه وأنانيّته إلى إيذاء المجتمع الذي يدّعي خدمته والعمل لمصلحته وخيره. فرجاءً كفّوا عن تهييج الشعب، والشباب خصوصاً، وإلاّ كنتم قد أتيتم على الأمل في مستقبل الوطن. نناشدكم أن تعودوا إلى الحوار والتشاور. وأن تتصارحوا ولا تتكاذبوا. وأن تُخرجوا إلى الظاهر ما عندكم من باطن. وأن تُعربوا عمّا تكتمون. وأن يصغي كلّ واحد منكم إلى ما عند غيره، فيحاول التمييز بين المقبول والمرفوض. وأن تحاولوا التغلّب على الانطواء على ذواتكم. وأن تحاولوا تجنّب ما هو مطبوعٌ عليه كلّ إنسان، على ما ورد في مزمور داود، حيث قال: إنّ الإنسان لَكذوب (في الترجمة الرائعة لعفيف عسيران). ألا تشعرون أنّ الشعب قد يشعر بأنه قد طفح الكيل؟ وأنّه لا تروقه مشاهدة تصارعكم تصارعَ المتصارعين في عهد نيرون؟ وأنّه لم يعد يطيق تصرّفاتكم غير المعقولة، بل المتهوّرة. وأنّه لم تعد تروقه مشاهدة مسرحيّتكم، وقد يكون فيها ما فيها من المشاجرة الصبيانيّة. وأنّ الشعب لن يقوم بدور قاضي الأولاد، فيشنق نفسه!
* كاتب لبناني