كرم الحلو *
في خطاب التأسيس لأول مدرسة وطنية في العالم العربي أنشأها المعلم بطرس البستاني عام 1863 في بيروت، على مقربة من الساحة المعروفة اليوم بساحة رياض الصلح، قال البستاني متوجهاً الى طلّابه من كل الطوائف: أنتم هنا إخوة وطنيّون تجمعكم العصبة الوطنية.
وبعد قرابة قرن ونصف قرن على خطاب المعلم البستاني تقف تلك المنطقة نفسها من بيروت، شاهداً على أعظم وأخطر انشقاق وطني وطائفي في تاريخ لبنان المعاصر، تجلّى في تظاهر مئات آلاف اللبنانيين من أجل حكومة وحدة وطنية بعد خروج طائفة كبرى بكاملها من الحكم.
ثمة خلل تاريخي كبير إذاً سيثير المراجعة ويستفز تساؤلات مقلقة ومربكة: لماذا لم يقيّض للانتماء الوطني ان يتقدم ويترسخ طوال كل تلك السنين، مذوّباً العصبيات والتناقضات الطائفية والمذهبية والإثنية في كيان وطني صلب غير قابل للتصدع والاهتزاز؟ لماذا ظل المجتمع الوطني اللبناني مهدداً على الدوام بالانشقاق والنزاع الأهلي على رغم كل الخطابات الباهرة عن التعايش والاندماج والوحدة؟ لماذا بقيت المواطنية اللبنانية أمراً قيد الدرس خاضعاً باستمرار للمراجعة والمساءلة؟
في رأينا ان إشكالات كبرى أسّست لهذا الخلل الممتد والمستمر من قرن الى قرن، أولها ان العصبية الوطنية اللبنانية التي نادى بها البستاني في ستينيات القرن التاسع عشر لم تخرج في الواقع من المنطق التسووي لتتحول، من اتفاق مؤقت بين الطوائف لا يلبث ان ينتهي الى صراعات جديدة وتقاسم نفوذ متجدد، إلى وطنية جامعة تتجاوز كل العصبيات والانتماءات ما قبل الوطنية. ولهذا ظلت الوطنية اللبنانية شعاراً لا «هوية»، وظل الوطن اللبناني مسرحاً لتنازع الطوائف والمذاهب على المغانم والمكاسب، حيث حقوق اللبناني السياسية والمدنية مصنفة تبعاً لانتمائه الطائفي، وليس باعتباره قيمة عليا تتحدد بها كينونته التي يجب ان تفتدى بكل ما عداها.
وثانيها ان الدولة اللبنانية التي كانت تتشكل في كل حقبة من تاريخ لبنان ظلت دولة النخب الأرستقراطية، الإقطاعية والمالية، لا دولة الشعب اللبناني بكل مواطنيه، بفقرائه وكادحيه، فكان تعاظم الشرخ والعداء والقطيعة بين الطبقة المحظية المستأثرة بخيرات الوطن، وسواده الأعظم الغارق في البؤس والحرمان والمتطلع الى دولة الحق والعدل والكفاية.
وثالثها ان النخبة الحاكمة لم تتجدد بصورة فعلية، وبعضها لا يزال يتربع سعيداً في السلطة منذ القرن التاسع عشر الى اليوم، ما خلّف تناقضاً عميقاً وجذرياً بين العقل الحاكم، الذي عجز عن استيعاب آفاق التجدد والتغيير التي أخذت طريقها الى المجتمع اللبناني بفعل الانفتاح على الحداثة السياسية والاجتماعية والفكرية، وبين الأجيال الصاعدة من الشباب والمثقفين. ورابعها انه ليس ثمة مفهوم قومي ثابت أو متفق عليه بين الطوائف أو الفئات والشرائح الاجتماعية، إذ تناقضت الرؤية القومية على الدوام بين من يطرح تصوراً قومياً عربياً للكيان اللبناني، ومن يطرح تصوراً دينياً، فيذهب بلبنان، مدفوعاً بحماسة إيديولوجية، الى خارج الإطار العربي وحتى الإقليمي، ومن يتصور لبنان قومية قائمة بذاتها مكتفية بتاريخها ومقوماتها الجغرافية والاجتماعية والثقافية.
وخامسها انه لم يتكوّن طوال القرنين الماضيين تصور علماني جامع للبنانيين حول مفهوم متجانس لدولة حديثة تقوم على أسس المساواة الوطنية وتكافؤ الفرص لا على الولاء الطائفي أو المحسوبيات القبلية أو الشخصية، فلم يتمكنوا من الاتفاق على قوانين تأخذ في الاعتبار الكفاءة الفردية وتحول المواقع السياسية والوظيفية الى ساحة منافسة لخدمة الوطن بدلاً من ان تبقى محاصصة طائفية ومكافآت للأنصار والمحاسيب. ولم يتوصّلوا الى تشريع قانون أحوال شخصية وطني واحد يقبل بالزواج المدني ويرفض دونية المرأة في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولم يفلحوا كذلك في الاعتراف باللبناني، مواطناً، فرداً، حراً، سيد قراراته ومصيره، وتالياً فك ارتهانه بالأعراف والتقاليد السائدة والمتخلفة.
كل هذه الإشكالات ظلت تنخر على الدوام في الكيان المجتمعي اللبناني الهش، فبقي الانشقاق والتمزق يتهددان المشروع الوطني في الصميم.
ان استمرار التظاهر والاعتصامات منذ أكثر من شهر الى الآن، واتخاذها خطاً تصعيدياً، والفشل في التوصل الى صيغة وفاقية وطنية بين الحكومة اللبنانية والمعارضة، مؤشرات مريبة تنذر بخطر داهم على الوحدة الوطنية اللبنانية وذات دلالة على ان «العصبة الوطنية» التي أمل بطرس البستاني ان تجمع اللبنانيين في ستينيات القرن التاسع عشر لا تزال أمنية بعيدة المنال.
* كاتب وباحث لبناني