محسن الأمين *
توجز الحكومة في مقدمة البرنامج الاقتصادي الأسباب الرئيسية للدين العام وهي، باختصار شديد منذ عام 1975 وحتى الآن، كالتالي: «إن الدين بمعظمه كان من نتائج الحروب منذ عام (1975 - 1992) وكذلك الاحتلال». وإن الحرب الأخيرة فرضت إعادة جدولة البرامج الإصلاحية، لذلك اضطرت الحكومة الى الاستدانة المحلية لتمويل عجز الموازنة.
بحلول عام 2000 اكتملت إعادة الإعمار، وتضاعف الدخل الفردي الفعلي مرتين ولكنه بقي أقل من ربع ما كان عليه، وقد تنامى الدين من مليارين الى 25 مليار دولار عام 2000، أي 150 في المئة من حجم الناتج الإجمالي ما أدى الى حالة ركود. وبعد باريس 2 قدّم المجتمع الدولي 2,4 مليار، اضافة الى مساهمة المصارف التي ساعدت على تراجع الدين. لكن الخلافات السياسية منعت كل الإجراءات التصحيحية ولا سيما الخصخصة... وقد تراجع الأداء مع التمديد واغتيال الرئيس الحريري. وجاءت الحكومة الحالية، وقد تبين لها ضرورة الدعم الخارجي لتراجع الدين من 175 في المئة الى 135 في المئة من الناتج المحلي من جراء حرب تموز.
ــ إن البرنامج يركز في أغلب فقراته وبنوده على تأثيرات حرب تموز، وأنها من الأسباب الرئيسية للتداعيات الاقتصادية وتراجع النمو. ولم يكتف البرنامج بذلك بل خصص قسماً رئيسياً له بعنوان «تكلفة حرب تموز 2006» حيث يقول وباختصار أيضاً: «إن لها آثاراً كبيرة على المدى القصير واستناداً الى شركات استشارية تقدر التكلفة المباشرة للنهوض بحوالى 2,8 مليار وتشمل تكلفة إعادة الإعمار واستبدال المنشآت المدمرة والتعويض على المساكن الخاصة».
أما التكلفة غير المباشرة وحسب توقعات صندوق النقد الدولي 2,2 مليار.
ــ إن الالتزامات المقدمة من مؤتمر استوكهولم وخصوصاً البلدان العربية بإمكانها أن تغطي جزءاً مهماً من الكلفة المباشرة لإعادة الإعمار... وإن وقع الحرب على الوضع المالي تناقص من فائض 3 في المئة الى عجز 0,4 في المئة، وإن الهبات تجاوزت 740 مليون دولار.
ومن المتوقع ان يتجاوز العجز المالي التوقعات الواردة في برنامج الإصلاح ما قبل الحرب، وذلك في غياب الدعم الخارجي.
ــ هكذا حاول هذا التقرير ــ البرنامج ان يضع الأسباب الحقيقية للدين وللأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وذلك بهدف التغطية على السياسات الاقتصادية والمالية للحكومات المتعاقبة منذ التسعينيات حتى الآن.
ــ وللتدليل على ذلك لا بد من مناقشة البرنامج المقدم الى مؤتمر باريس 3، ولكن قبل ذلك تجب الاشارة الى ان تلك الأسباب على رغم أهميتها في كونها تؤدي الى تراجع النمو وزيادة العجز لأن للحروب تكاليف، إلا أن اسرائيل هي التي فرضت تلك الحروب فكانت مقاومة الشعب اللبناني لها وكان التحرير. ولكنها ليست هي وحدها الفاعل الأساسي بل هناك عدة أسباب رئيسية أيضاً، منها: بنية النظام الاقتصادي والسياسي.
الفساد والرشوة، الاستثمار في القطاعات غير المنتجة، إضافة الى السياسة الضريبية المتبعة في تحويل الاقتصاد إلى الريعية، ما أدى الى عدم فعالية البرامج الإصلاحية السابقة التي يعتبر هذا البرنامج تكملة لها، وبالتالي تفاقم الدين والدوران في الحلقة المفرغة.
ــ وهذا ما يدفع القيمين على تلك السياسات الى رمي الكرة في ملعب الآخرين واتهامهم بأنهم السبب وأن حروبهم ومقاومتهم للاحتلال هي جوهر الأزمة وهو ما يشير إليه هذا البرنامج في أغلب بنوده.
ــ بالعودة الى مناقشة مقدمة البرنامج (البنود أ، ب، ج) فإن تنامي الدين قد زاد على خمسة وعشرين مليار دولار بين عاميْ 1992 و2000، فيما كان قبل ذلك ملياري دولار، يعني ان تكلفة الاعمار قد فاقت 20 مليار دولار.
ــ ولكن إذا عدنا الى تقارير ودراسات المؤسسات المختصة والحكومية وكذلك الدولية، نقول بأن كلفة الاعمار لم تتجاوز ثمانية مليارات دولار، بمعنى أن الدين قد تضاعف وان هناك أكثر من عشرة مليارات قد صرفت وهذه تكلفة عالية. فهل الدين كان ذا فائدة عالية جداً وتأجيله أو تسديده بقروض وفوائد أعلى قد ضاعف المبلغ إضافة الى الهدر والفساد، وما نشهده الآن هو استمرار لتلك السياسة.
ــ أما حول تضاعف الدخل وبقائه أقل من ربع ما كان عليه، فسببه معروف وهو التضخم وتناقص القوة الشرائية وتضاعف الضرائب ما أدى الى حالة الركود التي ذكرها البرنامج، وهكذا الى أن أصبح الدين 150 في المئة من حجم الناتج، فليتهم لم يحاولوا معالجة سياساتهم بالعودة الى الاقتراض بل بالاستعانة بالإصلاح الإداري والسياسي. هذا التمادي في تلك السياسة كان سبباً رئيسياً في الأزمات والخلافات والانقسامات الحادة على مختلف الأصعدة، وليست، كما يشير البرنامج، الخلافات والانقسامات والأزمات السياسية والاحتلالات هي وراء الأزمة بل العكس هو الصحيح.
ــ ويتكرر الأسلوب نفسه إذ يشير البرنامج إلى أن «تكلفة حرب تموز وتأثيراتها قد فاقمت وزادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً». ولكن هذا البرنامج كما يعلم الجميع كان قد أعد (لمؤتمر بيروت واحد) أي قبيل حرب تموز.
ــ وتورد الحكومة في برنامجها عن الهبات والمساعدات التي قُدّمت، أنها قد أزالت قسماً كبيراً من هذه الآثار، فالجسور قد رممت بتبرعات محلية (95 في المئة منها)، أما المساكن والقرى والطرق فقد تبرعت بإعمارها على حسابها بعض الدول العربية، هذا بالإضافة الى مؤتمر استوكهولم الذي أتى بحوالى مليار دولار، فضلاً عن تدفق أموال المغتربين في تلك الفترة الى عائلاتهم وقراهم. وكان لمؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية دور كبير في إغاثة المنكوبين.
ــ وإن المساعدات التي قدمت من جهاد البناء قد فاقت نصف مليار دولار.
ــ كل ذلك يعني ان تلك التدفقات المالية قد زادت في النمو لا العكس، بل إن الوضع المالي لم يتراجع وكذلك زاد الطلب على العمالة وخاصة المهنية منها، وهذا ما تشهد عليه الحركة الاقتصادية الداخلية.
ــ ولعل بعض الهبات قد صرفت في غير موضعها، كما يشاع وكما يشكو بعض المطلعين على خفايا الأمور من أن بضع مئات آلاف الدولارات قد صرفت على مكاتب استشارية ودراسات والمحسوبيات، وخاصة تلك المساعدات العينية والمالية في المناطق التي لم تتأثر من قريب ولا من بعيد بنتيجة حرب تموز.
ــ إنها السياسة نفسها التي نعانيها منذ عدة سنوات...
ــ لذلك الطلبات المتكررة للدعم الخارجي ما هي إلا استثمار لتأجيل الأزمة وطلب لتأجيل الانهيار.
ــ إن تطبيق هذا البرنامج، كي ينجح، يتطلب توافقاً سياسياً كشرط أساسي لتقديم القروض والهبات، فكيف يمكن ذلك في ظل ما هو حاصل من أزمة سياسية حادة، وخاصة أن هذه الحكومة تعتبر أن الحصول على هذه القروض هو من أجل إعادة الإعمار وبناء ما تهدّم خلال حرب تموز، على رغم أن هذا البرنامج كان معداً لمؤتمر بيروت، وكان يمكن مناقشة بنوده وتطبيقها في ظلّ توافق سياسي وخاصة عندما وضعت على طاولة التشاور. وهذا يعني أن توقيت مؤتمر باريس 3 سياسي بامتياز وليس اقتصادياً فقط، وذلك من أجل دعم هذه الحكومة سياسياً في وجه المعارضة. وإن فشلها يعني انهياراً اقتصاياً شاملاً للبنان تتحمل مسؤوليته المعارضة أمام الرأي العام وكأن استخدام الاقتصاد من خلال باريس 3 أصبح مادة جدلية بين من يحاول معالجة المديونية من خلال الدعم الخارجي ومن يعترض على السياسة الاقتصادية المتبعة منذ سنوات والتي أدت الى هذا الحجم من المديونية.
* استاذ في الجامعة اللبنانية