ميخائيل عوض *
الأزمة العاصفة التي دخلتها البلاد تبدو أعمق بكثير مما يجري التعامل معها، وأعنف مما يفترض الفاعلون في الحياة السياسية في خندقَي الأزمة، وتالياً أطول مما يتمناه الجميع.
من قراءة أعمق للأزمة وعناصرها وبيئتها الاستراتيجية، يمكن التثبت بأنها أكثر عمقاً من أزمة الـ1975 التي دامت مفاعيلها سنوات طوالاً ولم تهدأ قبل تحقيق خرق في بنية النظام كان له أن يشكل مدخلاً لتعديل جوهري لولا تعطيل تطبيق الطائف بوجود «القبضة الحديدية السورية» والحؤول دون ولوج البلاد مرحلة التعاقدات التاريخية واقتصار مفاعيل الطائف على هدنة مؤقتة استدرجت البلاد إلى الأزمة الحالية الضاربة فيها عمقاً واتّساعاً.
تتجدد الأزمة على أنها استمرار للأزمة البنيوية التي رافقت تأسيس لبنان ونظامه الطائفي بعد استنفاد هدنة الطائف لمشروعيتها التاريخية وتعطلها على بوابات ولوج إلغاء الطائفية السياسية وإعادة هيكلة النظام العام على أساس المواطنية المتساوية والديموقراطية المباشرة، بمراعاة خاصيات لبنان وتعايشه عبر مجلس للشيوخ وتقاسم لوظائف الدرجة الأولى.
بخروج سوريا من لبنان، وانهيار التوافقات الإقليمية والدولية سقطت عناصر ضبط مفاعيل اتفاق الطائف وانفلتت الأزمة من عقالها، لتأخذ أشكالاً ومضامين جديدة دالّة ليس أقلها هتك الأكثرية نص الدستور وروحه في مقدمته التي شكلت نقطة ارتكاز النظام الطائفي منذ نشوء الكيان، المكرس في دستور 1943 والمعدل في اتفاق الطائف.
في ممارسات الأكثرية مؤشر قوي على انتفاء الحاجات الموضوعية لنظام محاصة طائفية لم يعد له من يحميه بعد أن تحول من نظام امتياز لطائفة إلى نظام توازن الطوائف مفتقداً لطائفة أم وأب له.
تتقاطع مع الأزمة الدستورية، أزمة وظائف الكيان، التي مسّها تغيير جوهري في بيئتها الاستراتيجية وفي طبيعة القوى المحلية والإقليمية الحامية لها، ليكون التقاطع بين أزمة النظام وأزمة وظائف الكيان عنصراً مفجراً ومانعاً لحدوث تفاهمات أو تسويات، ما يؤكد سقوط نظرية اللا غالب واللا مغلوب، وتداعي المبادرات وانكسار الهيمنة العربية على الأزمة اللبنانية وتالياً انفتاحها على شتى الاحتمالات.
الدور الاقتصادي الوظيفي للبنان أصابه خلل كبير أثناء الحرب الأهلية، ثم تعمّق بتقدم اقتصاديات عربية لملء الفراغ ثم في التحولات الجارية على الاقتصاد السوري واعتماده اقتصاد سوق منفتحة قادر على وراثة ما بقي من دور للاقتصاد اللبناني، وقادر على تخديم نفسه وتخديم بر الشام، امتداداً إلى بلاد الرافدين والخليج العربي، وصولاً إلى تخديم الاقتصاد التركي والإيراني.
والدور السياسي السابق «القوة بالضعف» أصيب بانتكاسة مع تصاعد دور المقاومة ونجاحها في إنجاز التحرير عام 2000 ثم في قدرتها النوعية على إلحاق الهزيمة بالعدوان الإسرائيلي 2006 وتحولها قوة إقليمية وازنة في تقرير خيارات المنطقة واتجاهات الصراع فيها بدءاً بالدور الفاعل في الصراع العربي الإسرائيلي وتجلّياته، وما تحقق في حرب تموز لجهة انتهاء الدور الوظيفي للكيان الصهيوني بعد سقوط عناصر قوته، على ما أكدته مراراً وتكراراً الصحف الإسرائيلية والدراسات، وما حملته يديعوت أحرونوت من عنوان فاضح بدلالاته «إسرائيل كلب صيد أميركي فقد قدرته». والدلائل والمعطيات الاستراتيجية تجعل من كيانات سايكس بيكو فاقدة لقدراتها ووظائفها التي أقيمت لتخديمها، فباتت بدون راع بعد أن اعتمدت القوى الغربية استراتيجية تقسيم المقسم ودفع المنطقة إلى الاحتراب والفوضى الهدامة. ومع تراجع قدرات المشروع الغربي وتناسل أزماته في أكثر من ساحة، يتأكد انتفاء الدور الوظيفي للكيانات الصغيرة، وانتفاء مصالح وقدرة القوى الكبرى على حمايتها وتأمين استقرارها. يتقاطع ذلك مع نجاح المقاومات العربية في فلسطين، والعراق ولبنان وإنجازها هدف إلحاق الهزيمة بالمشروع الاستعماري ثم انفتاحها هي على أزمات تكوينية كانعكاس لأزمات الكيانات وعجزها عن توليد حركات وطنية جامعة قادرة على إنشاء مشروع القيام والنهوض..
الحقيقة الإقليمية، والمتغيــــــــــرات في البيــــــــــــــئة الاستراتيجية تتأكد معطياتها في لبنان على نحو جليّ في نتائج الصراع خلال السنتين المنصرمتين حيث سعت أوروبا وأميركا متحدتان و«هما أعتى أمبراطوريتين» ومعهما النظام الرسمي العربي لاستعادة الدور السابق للبنان وعجزت وانحسرت قدرتها فأدخلت البلاد في أزمتها الحالية.
والحال هذه، والأزمة على عمقها، كيف السبيل إلى حل؟ أي حل ممكن؟ متى؟ وما هي الآليات والسيناريوهات المفترضة؟
لا تبدو الإجابة سهلة، ولا يجوز تبسيطها، بل المطلوب إجراء قراءة ملموسة للواقع الملموس، وتالياً اقتراح برامج ملموسة للمعالجة قبل فوات الأوان.
المعطيات المادية الملموسة تسمح لنا بتسجيل ملاحظات تأسيسية منها:
ــ لا مكان لتسوية جديدة لا تنتج تغييراً في بنية النظام، وآليات تشكله، وقواه الاجتماعية، ومؤسساته الدستورية، والعلاقة بين المواطنة والدولة، ولا سيما بعد أن فقد النظام عناصر ارتكازه وأدوات قوته وحمايته التي نجحت على مدى القرن المنصرم بتجاوز الأزمات واحتوائها وهضم نتائجها فأنتجت مقولة «اللا غالب واللا مغلوب»، فالنظام اللبناني العنيد كان يقوم على ثلاثة مرتكزات تبددت. كانت الطائفية ووجود طائفة أم وأب للنظام أحد مرتكزاته. وسبق للطائف أن بددها وجعل النظام بلا قوة اجتماعية تخوض حرباً أهلية لحمايته، ومرتكزات النظام الاقتصادية تتعامل معه كأنه لم يعد نظامها بعد أن هتكت مرحلة الحريرية هيمنة القطاع المالي اللبناني الاحتكارية للسوق وصار مضطراً للبحث عن أسواق خارجية بعد أن فتحت السوق المحلية للمصارف الخليجية والدولية، فوجدت ضالّتها في سوريا واقتصادها النامي، وفي الشراكات مع مصارف عربية في الجزائر ومصر ودبي، كذلك الأمر بما يخص الركن الثالث للنظام المتجسد بأصحاب الوكالات الحصرية التي كسرت قوتها وقدرتها التطورات والتحولات الاقتصادية البينية بسبب هيمنة العولمة وقوانينها ومساراتها، مضافاً عليها انتفاء دور التجارة المثلثة التي كان يحتكرها لبنان في بيئته. وعليه، لم يعد للنظام من حام، وليس له من مرتكزات مادية وقوى دفاع قوية قادرة كما في الداخل، كذلك من الخارج ما يؤكد هشاشته واحتمالية أن يطاله التغيير النوعي.
ــ تقع الأزمة على خط تماس متفجر، وفي بيئة متغيرات استراتيجية في المنطقة الحاضنة. فإسرائيل دخلت طور الانحسار والعجز، وأميركا في مأزق استنفاد القوة وفاعليتها، والحلف العربي المعتدل أعجز من أن يحمي نفسه، فهو عاجز بالضرورة عن حماية المشروع الغربي وتلبية حاجاته الضاغطة من بوابة الساحة اللبنانية. والعلاقات العربية الحاضنة للأزمات اللبنانية في أزمة تصادم كما هي عليه الحال السورية السعودية، والصراع على المنطقة والتخندق يأخذ مداه الأقصى «الحالة شبيهة بما كانت عليه العلاقات السعودية مع عبد الناصر وحقبة حرب اليمن».
ــ موازين القوى الداخلية معطوفة على المتغيرات في موازين القوى الإقليمية والدولية ولا تفتح أفقاً لحرب أهلية لبنانية جديدة، مضافاً إليها تبلور قوى لبنانية محلية نجحت في ملء فراغ الانسحاب السوري وتقليص قدرة الدور العربي والدولي مجسدة في تفاهمات حزب الله وعون، وفي تحول الأكثرية اللبنانية باتجاه رفض الفتنة والاقتتال.
ــ يبقى احتمال استقرار توازن قوى محلي بالتقاطع مع بيئة الصدام العربية والعالمية في لبنان قائماً، ما يفسح المجال لأزمة مقيمة طويلة نسبياً تفتح البلاد على حالة تحلّل وعجز مديد تؤدي إلى فرض تغييرات بنيوية في مستقبل الكيان.
في الواقع احتمالات وخيارات قاسية، وفي الراهن أزمة معقدة لا تستعجل حلولاً ترقيعية أو هدناً وتسويات مؤقتة.
الأزمة بعناصرها ومستجداتها تفتح على متغيرات وتحولات متسارعة في قواها وتحالفاتها وأدواتها وتقع على حدود كارثة اقتصادية اجتماعية مرشحة أن تعصف لتضيف عناصر جديدة عليها.
المعطيات ذاتها ترشــــح لبنان لدور وظيفي جديد إن أدرك اللبنانيون طبيعة المرحلة وأهمية لبــنان وموقعه ودور مقاومته وإمكان تحوله الى قوة هجومية في إدارة الصراع على المنطقة وفيها، على أنها وظيفة هامة تحفظ استمرارية الكيان وتجديد وظائفه، وتعطيه موقعاً ريادياً في المنطقة برمتها بدءاً من بلاد المشرق والرافدين، إلى توليد وظائف نوعية للاقتصاد اللبناني ليكون قادراً على أداء دور في تظهير اقتصاد مشرقي عربي قوي تتقاطع فيه خصائص وميزات الاقتصاديات المشرقية بلوغاً لإنشاء قوة اقتصادية قاطرة لمشروع عربي إسلامي تتقدم مؤشراته ونذره السياسية والاقتصادية، وتبدو ملامحه لكل ذي بصيرة.
خلاصة القول:
يجب التعامل مع الأزمة والسعي لفهمها على أنها أزمة مفصلية في ساحة مفتاحية تتقرر على نتائجها مسارات الأحداث في المنطقة برمتها.
على أنها أزمة عميقة تلامس ضرورة إحداث تغييرات نوعية في بنية النظام العام وفي وظائف الكيان. بغير ذلك، على أغلب الظن، فالبلاد ذاهبة إلى متاهة لا يعرف إلا الله مآلها ونتائجها وكيف ستنتهي.
* كاتب لبناني