خورشيد دلي *
عندما أعلنت لجنة بيكر ــ هاملتون توصياتها بشأن الأزمة العراقية، أعلن الأكراد على الفور رفضهم لهذه التوصيات وبادر رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني إلى الاتصال بالرئيس الأميركي جورج بوش هاتفياً، وعقد البرلمان الكردستاني جلسة خاصة لبحث توصيات التقرير...
دون شك، الأكراد في رفضهم تقرير بيكر هاملتون تذكروا فجأة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الذي كان له الدور الأبرز في التمهيد لاتفاقية الجزائر عام 1975 بين صدام حسين الذي كان آنذاك نائباً (لرئيس مجلس قيادة الثورة) وشاه إيران، حيث أدت هذه الاتفاقية إلى انهيار الثورة الكردية التي قادها الملا مصطفى البارزاني وهروب عشرات آلاف الأكراد من العراق إلى إيران تحت قصف الجيش العراقي بعد ان قطع الشاه المساعدات عن المقاتلين الأكراد (البيشمركة) الذين بقوا من دون ذخيرة ولا قدرة على مقاومة القصف العراقي حتى في معاقلهم الجبلية. أي ان الرفض الكردي ينبع من تجدد الخيبة في السياسة الأميركية، وعليه يمكن فهم الكتابات الكردية التي اتجهت إلى الربط بين كيسنجر وبيكر في مسألة العلاقة الكردية ــ الأميركية.
عند الحديث عن العلاقات الكردية ــ الأميركية ينبغي التوقف أولاً عند رؤية الغرب للقضية الكردية، على نحو: هل هي قضية سياسية تخصّ شعباً حُرم حقوقه الوطنية والقومية أم مسألة أمنية تحتل أهمية في السياسات والأولويات الأميركية تجاه دول المنطقة وشعوبها ومستقبلها؟
في الواقع، منذ العشرينيات وحتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي (أي تاريخ حرب الخليج الأولى 1991) لم تكن علاقات الغرب بالحركة الكردية علاقة سياسية علنية كما هي الحال الآن، بل كانت علاقات أمنية سرية تندرج في الإطار الاستخباري، وكان الغرب على الدوام ينظر إلى الأكراد على انهم عامل بشري أمني مهم في منطقة استراتيجية مهمة تتجاذبها التيارات القومية والدينية والمصالح النفطية والاقتصادية، أي أن جوهر السياسة الغربية وخصوصاً الأميركية تجاه الأكراد، لا يقوم على اعتبار قضية الأكراد شأناً كردياً مستقلاًّ بل على اعتبارها أولوية أمنية يمكن استخدامها في الظرف المناسب ضد هذا الطرف الإقليمي المعني بالقضية الكردية أو ذاك، والقاعدة الذهبية هنا هي: ان الغرب يسعى دوماً إلى وضع دول المنطقة أمام واقع المشكلة الكردية بتشابكاتها المعقدة، وعندما يقضي مصالحه مع هذه الدول يضع الأكراد أمام الأمر الواقع الصعب ليكونوا ضحية هذه السياسة نفسها.
في التجربة التاريخية لعلاقة الأكراد بالغرب هناك الكثير من التجارب واللحظات التاريخية التي تحولت إلى انتكاسات عسكرية ــ سياسية ــ اجتماعية عبّرت في الوجدان الكردي عن خيانة الغرب للأماني الكردية التي دافع الأكراد من أجلها طويلاً، فيما كان الساسة في الغرب يقولون مع كل انتكاسة كردية: (انهم كانوا يقومون بواجبهم وعلى الأكراد ان يميزوا بين النشاط الاستخباري والعمل التبشيري). هذا ما قاله كيسنجر ردّاً على مناشدات البارزاني الأب له عقب الانتكاسة الكردية في عام 1975، وعليه فإن توصيات لجنة بيكر ــ هاملتون أيقظت الذاكرة الكردية المليئة بصور الخيبة والفجيعة والأقدار... النابعة من مأساة السياسة على مذبح المصالح المرتبطة بالتطورات والأحداث.
في أحيان كثيرة تبدو العلاقة الكردية ــ الأميركية تخضع لشكل الحدث نفسه وعلاقته بالدول المعنية بالمشكلة الكردية على شكل دورة الأقدار والمصالح، تبدأ الدورة مع حدوث مأساة كردية هنا أو هناك، ومعها تظهر الدعائم (الإنسانية والسلمية) التي يتقرب الغرب على أساسها من الأكراد، وفي اللحظة التي تتحول فيها هذه المأساة واقعاً سياسياً وكيانياً على الأرض، تبدأ الدورة بالنزول لتنتهي على مذبح المصالح والاعتبارات الأمنية لعلاقة الغرب بالدول الإقليمية المعنية بالقضية الكردية، الا أن هذه القراءة ينبغي الا تقلل من وضع الكيان الكردي الناشئ بعد احتلال العراق وتحوله إلى شكل من أشكال الدولة الفدرالية من دون ان تكون هناك ضمانات دولية أو قانونية لهذا الكيان ما دام الوضع الأمني في العراق على حاله ودستور العراق الجديد لم يجد مجاله للتطبيق بعد.
ولعل ما يؤكد حقيقة الأولوية الأمنية في علاقة الغرب (أميركا) بالأكراد، تلك القراءة المجزأة والمتناقضة للواقع الكردي (إظهار الصورة الإيجابية للوضع الكردي في العراق مقابل الصورة الإرهابية في تركيا ــ الإسراع في تقديم الحماية والمساعدة لأكراد العراق مقابل حظر حزب العمال الكردستاني التركي وتصنيفه في خانة الإرهاب والتطرف، وبالتالي تبرير النهج الأمني التركي في التعامل مع أكراد تركيا.. إلخ) وهكذا/ حسب القراءة الغربية/ تبدو القضية الكردية في تطلعاتها متناقضة في مشروعيتها وحتى في إنسانيتها وأخلاقياتها.
الأكراد، رغم تجربتهم المريرة مع أميركا، هم أيضاً لم يحسنوا التعاون معها وفهمها فهماً سليماً، فهم إما نظروا إليها بصفتها الإمبريالية والاستعمار ويجب تالياً محاربتها حتى لو كان من دياربكر، أو التعامل معها بصفتها قوة ضاربة في كل زمان ومكان وبالتالي يمكن الاعتماد عليها والعمل لحسابها من دون حساب، وكثيراً ما كانوا ضحية لهذين الفهمين. ففي الحال الأولى تحولوا إلى إرهابيين مطلوبين للشرعية الدولية حيث المحافل الدولية مغلقة أمامهم، وفي الحال الثانية إلى عملاء للإمبريالية والصهيونية يعملون لتقسيم العراق والمنطقة، وفي الحالين أخفق الأكراد ومعهم المعنيون مباشرة بالمشكلة الكردية في بناء الثقة وإرساء أسس سليمة لحل هذه المشكلة بعد قرن من تفجرها.
وفي جميع الأحوال، ينبغي القول إن العلاقة الكردية ــ الأميركية ينبغي الا تخضع لقاعدة (شهر العسل) حتى لو كان هذا الشهر عقداً من الزمان، بل لعلاقة المنطقة ككل بالاستراتيجية الأميركية ومشاريعها ومخططاتها تجاه الجميع، وهذا الأمر لا يتوقف على الأكراد وحدهم بل العرب والفرس والأتراك وأقلياتهم ما دام الجميع يؤلفون معاً بنية حضارية واحدة في أمنها ودورتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية وبنيانها العام.
* كاتب سوري