تجارة القلق والخوف على المستقبل
كنت أحسب أن التنجيم وقراءة الطالع في كف منبسط أو فنجان قهوة هي عادات شرقــــــــــــية بحتة. لكنني فوجئت، خلال عقدين ونيف أمضيتها في بلاد الجنرال ديــــــــــغول حيث تسنى لي الاختلاط بالعديد من شعوب أوروبا والعالم، بوجود هذه المعتــــــــــقدات والممارسات لدى شعوب الأرض كــــــــــافة. كما لفــــــــــت انتباهي أن تعاظم هذه الحاجة إلى استطـــــــــــــلاع المستقبل متصل ومرتبط بنمو الشعور بالقلق والخوف على هذا المستقبل لدى كافة الــــــــــنــــــــــــــاس ومن دون استثناء فئة اجتماعية ما، مهما علا شأنها أو تدنى.. يقابله هبوط فاضح في البنية الاجتماعـــــــــــية الفكـــــــــرية والقيم الأخلاقية، معتقدات وممارسات.
عندها يندفع الناس إلى البحث عن الرجاء والخلاص في أماكن ومطارح مغايرة حتى لا نقول مناقضة، لتلك القيم الإنسانية الحضارية الثابتة منذ القدم والتي عليها قامت المجتمعات وتأسست الدول ونمت وتطورت. هنا تكمن الأسباب الحقيقية المؤدية الى تعاظم دور علماء الفلك والمنجمين وزملائهم العرّافين الروحيين وغير الروحيين، يزاحمون رجال الدين وعلماء النفس في إدارة الأزمات وإيجاد الحلول لها على المستويين الفردي والجماعي.
مع العلم بأنّ علم الفلك بهدف التنجيم وكشف الطالع ماضياً وحاضراً، يضاف إليه تلك القدرات الذاتية التي يملكها البعض في ما يسمى علم الفراسة، أي قراءة ملامح الوجه والكف والصوت والخط، والتأمل إلى درجة التبحّر في الماء والزيت والرمل وغيرها من علامات وإشارات، واللجوء إلى أدوات من صنع الإنسان كورق اللعب وفنجان القهوة والحبر.. هي معتقدات وممارسات تنتمي إلى كل الحضارات، نشأت يوم بدأ العقل ينمو ويتطوّر في رأس الإنسان الأول حتى يومنا هذا.
تلــــــــــك المعتقدات والممارسات ستستمر في النمو والتطوّر ما دام هذا الإنسان يعيش القلق والخوف على وجوده ومصيره بحثاً عن تلك الأسرار والحقائق التي تمسك بمفاتـــــــــيح الحياة منذ ما قبل الولادة إلى ما بعد الموت.
أضف إلى كل هذا، تلك المحاولات المستمرة التي يلجأ إليها الإنسان الحيّ من أجل التواصل مع روح الإنسان الميّت والطلب منه أن يساعده على مواجهة تحديات الحياة في هذه الدنيا الفانية. اللافت للنظر هو الدور الذي يؤدّيه الإعلام عموماً في ترويج هذه الظاهرة، وبخاصة الإعلام المرئي والمسموع بما يتمتع به من هيمنة على قطاع الاتصالات بشكل لم يشهده العالم من قبل.
من المسلّم به أن الحضارة الإنسانية نشأت فعلياً يوم توصّل الإنسان إلى اختراع أداتين، هما: الحرف والرقم. قبلها كان الإنسان يملك فقط القدرة على التأمل والمقارنة حتى يتمكّن من إيجاد حلول لمشاكله وما أكثرها.. تلك القدرة التي أدركها الكهنة الأوائل المتنوّرون الذين تمكّنوا من إقناع الإنسان البدائي بها ليصبح إنساناً اجتماعياً خاضعاً، وأنشأوا المتّحدات والمجتمعات والدول. هم المؤسسون لأنهم أدركوا قبل غيرهم أن الانبعاث يأتي من رحم الشعور الإنساني بالقلق والخوف على الوجود والمصير النهائي، هذا الشعور الذي يولد مع الإنسان ويموت معه.
كما يبدو أن الإنسان لم يعرف القلق والخوف بالقدر الذي نشهده اليوم، لأنه وبكل بساطة أصبح مواطناً في هذه القرية الكونية، يعيش على وقع الأخبار وأغلبها سيئ، محزن ومحبط، تصله لا بل تتساقط عليه بكثرة متزايدة على مدار الساعة وطوال أيام السنة، من دون انقطاع ومن كل بلدان هذا العالم الباحث عن عولمة لحل مشاكله. بينما رجال الدين أهل الحكمة والتعقل في الشرق والغرب منغمسون في متاع هذه الدنيا جاهاً وكبرياءً يشاركون أهل السياسة والمال همومهم وطموحات لا حدود لها وصراعات لا تتوقف من أجل الهيمنة، بعدما تخلّوا عن تأدية دورهم الريادي في قيادة المجتمعات. ونلوم الناس لأنها «تؤمن» بما يقوله المنجّمون والعرّافون الذين يعرفون كيف يستغلون الأوضاع المادية والحالات النفسية التي يعاني منها الإنسان المعاصر بسبب انحرافه وبحثه المستميت عن تلبية حاجاته المادية على حساب حاجاته الروحية.
فايز فارس (باحث في علم الاجتماع السلوكي)