رياض صوما *
لم يكن انحياز بوش الى المتشددين في «استراتيجيته الجديدة» مفاجئاً. فأهداف هذه الاستراتيجيا المستنسخة، لا تتناقض في العمق مع الضرورات الراهنة لمجرى الصراع الدائر في المنطقة، على رغم المؤشرات الظاهرية المغايرة. من المؤكد أن الاستراتيجيا السابقة، المستندة الى غرور القوة وعنجهيتها، والنظرة التبسيطية الى مشاكل المنطقة وموازين القوى الحقيقية فيها، والتي فاقمهما ضعف الاعتراض الدولي، والانبطاح المفجع للنظام الرسمي العربي، وما يسمى «قوى الاعتدال» ومنها ما هو أشد تصلباً من المحافظين الجدد، قد استنفدت زخمها. وقد اتضح ذلك جلياً مع التعثر المتواصل في العراق، والفشل المدوّي للحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان. وقد انعكس أيضاً بصورة جلية على هيبة الولايات المتحدة خارجياً، وعلى شعبية بوش وإدارته داخلياً، وأفسح في المجال، لمزيد من مبادرات القوى الدولية والإقليمية المتضررة من الخطط الأميركية، وخاصة من جانب روسيا وايران، إذ غطت الدينامية الروسية مروحة واسعة من الأمور الخاصة بالمنطقة، فبدأت باستقبال عدد من مسؤولي المنطقة أبرزهم الرئيس بشار الأسد، وعقدت صفقات تسلح مع سوريا وايران، ولم تنته بإحراج الولايات المتحدة وفرنسا وأتباعهم، عندما فضحت رياءهم بشأن المحكمة ذات الطابع الدولي المتعلقة بجريمة اغتيال الرئيس الحريري. وقد بلغ الانزعاج الاسرائيلي من هذا الدور الروسي النشط والمجدي حد وصف بعض المسؤولين والصحف في تل أبيب ذلك بأنه يذكّر بدور الاتحاد السوفياتي في أسوء مراحل الحرب الباردة، وأضف إلى ذلك تواصل الصمود الايراني بوجه الضغوط الأميركية والأطلسية، والعقوبات التي أقرها مجلس الأمن، والإصرار على حق طهران في الاستفادة من التقنيات النووية السلمية. بل أكثر من ذلك، يمكن القول إن ايران وسوريا ومجمل قوى الممانعة، قد بالغوا بتقدير استعداد بوش وإدارته للمساومة، بفعل الصعوبات التي واجهها مشروعهم في المنطقة، فتوالت العروض للمساعدة في بغداد وفلسطين ولبنان، حتى إن الرئيس بشار الأسد ذهب الى حد مناشدة الحكومة الاسرائيلية العودة الى المفاوضات المباشرة. وقد تحمّس بعض أنصار محور الممانعة، الى درجة القول بأن التفاهمات مع الأميركيين باتت شبه منتهية، وأن المسألة أصبحت متعلقة بالإخراج. وبعضهم فسر كل مواقف الأطراف الدولية والعربية واللبنانية وتحركاتها، على هذا الأساس. فأين الحقيقة في كل ذلك؟ لا شك في أن هناك قدراً من الحراك الذي شهدته المنطقة والعالم خلال الأشهر السابقة، ارتبط بسعي الإدارة الأميركية لتجاوز مصاعبها، ومن بين هذه المساعي عمل لجنة بيكر ــ هاملتون. وهناك أثر مؤكد لمقترحاتها في موجة التفاؤل المفرط لدى أوساط الممانعة في المنطقة، ونأمل أن لا يصاب هؤلاء بالإحباط بعد إعلان استراتيجيا بوش الجديدة، وأن لا يتفاءل بها أخصامهم كثيراً، فالواقع أنها لا تتعدى كونها فترة انتقالية بين مرحلتين حقيقيتين. الواقع أن هجومية ورعونة الاستراتيجيا السابقة التي وزعت ضغوطها على الحلفاء والأخصام والأعداء، من دون تمييز كبير، نجحت في الحد من فعالية الاعتراضات الدولية والاقليمية، ولكنها أوجدت تقاطعاً واسعاً ضدها، جمع قوى عديدة دولية واقليمية ومحلية، لا تؤهلها طبيعتها للثبات في تحالف جدي على المديين المتوسط والبعيد. وهذا ما أدركته لجنة بيكر ــ هاملتون، وسعت لتفكيكه واحتوائه عبر المزج بين الوسائل العسكرية والسياسية. ففرزت قواه الى خصم أساسي هو إيران، مطلوب عزله وإضعافه بموازاة محاورته، وهي استعادة لتجربة الصراع العالمي مع السوفيات، وتطبيقها على نطاق إقليمي، والى قوى حليفة سابقة ودائمة «قوى الاعتدال العربي، مضافاً إليها اسرائيل»، مطلوب منها تجاوز خلافاتها والتوحد ضد العدو «الفارسي». قوى الممانعة العربية وفي مقدمها سوريا، مدعوة للابتعاد عن ايران، لقاء ثمن خاضع للتفاوض، وهنا استعادة لتجربة كيسنجر مع مصر الساداتية. أما القوى الجذرية في رفضها للمخطط الأميركي ــ الاسرائيلي، كحزب الله، وحماس، والتيار الصدري، والمقاومة العراقية المسلحة، وأطراف اليسار الرافضة للمساومة، فمطلوب تصفيتها جسدياً أو سياسياً. وهذا ما يدركه معاونو بوش الجدد وفي مقدمهم وزير دفاعه روبرت غيتس، وهم أكثر حنكة واتزاناً من غلاة المحافظين الجدد. لذا من المفترض التنبه أكثر الى خلفيات ما يجري على السطح. فهل تتعارض خطة بوش الجديدة المعلنة، في العمق، مع مقترحات بيكر ــ هاملتون؟ قد يبدو ذلك للوهلة الأولى. ولكن تحليلاً هادئاً لأبعاد الخطة يطرح احتمالات أخرى. في ما يتعلق بإيران، صحيح أن بوش لا يبدو مستعجلاً للتفاوض المباشر معها، على أرضية انتكاسات خطته السابقة، وهذا منطقي. ولكن أركانه أوضحوا أنهم لا ينوون مهاجمتها عسكرياً، وايران لا تطمح الى ما هو أكثر من ذلك راهناً. ولكنه منصرف لتحسين وضعيته ميدانياً في العراق والمنطقة، ما قد يسمح بمباشرة الحوار لاحقاً، ضمن شروط أفضل بالنسبة إليه. ولم يكن إعدام صدام حسين، بالسرعة والشكل اللذين تم بهما، سوى تمهيد لذلك. فهو يأمل أن يفسح غياب صدام عن المسرح في المجال أمام تقدم رموز عراقية بعثية وعسكرية سابقة من أهل السنة للانخراط في «العملية السياسية»، لم تكن لتجرؤ على فعل ذلك، وصدام على قيد الحياة، وأن يفسح في المجال أمام ضرب التيار الصدري، من دون أن تبدو الولايات المتحدة منحازة ضد الشيعة، فتضرب العصفورين بحجر واحد. ويكون الرابح الحقيقي في النهاية، أنصار الاحتلال سنة وشيعة. وفي ما يتعلق بقوى الاعتدال، فهي تتسابق لتحريض بوش على مواجهة ايران، فلماذا يسترضيها من أجل دفعها الى المعركة؟ وها هي الآنسة كوندي قد جاءت لتقنع اسرائيل بتسهيل مهمة ولادة التحالف العربي الاسرائيلي ضد ايران، عبر إحياء «خريطة الطريق». وها هو السيد أبو مازن قد عاد واقتنع بأهمية الوحدة الوطنية، وتنازل وزار دمشق لضمها الى «مساعي الخير»، من دون أن يضطر السيد بوش أو السيد أولمرت إلى مباشرة الحوار معها. أما القوى الممانعة الراديكالية في بغداد وغزة وبيروت، فعلى رغم تضحياتها وصمودها، فإن وضعها الآن أكثر هشاشة من السابق، وهي معرضة للمزيد إذا بقيت هي وداعموها نائمين على أمجاد الانتصارات السابقة، ومكتفية بترداد معزوفة المأزق الاميركي. الواقع أن المنطقة لا تعيش مأزق المشروع الأميركي ــ الاسرائيلي لوحده. فإذا كان صحيحاً أن مشروع استفراد الأميركيين بإدارة شؤون المنطقة قد فشل، فإن المشروع المقابل ليس أفضل حالاً. يحق للقوى الاستقلالية في المنطقة وفي مقدمها ايران وسوريا وحلفاؤهما، والقوى المتقاطعة معهما، أن تبدو مزهوة بإفشال المشروع الأميركي بصيغته الأكثر فظاظة، ولكن عليها أن تدرك أن شروط ذلك تختلف عن شروط إفشال المرحلة التالية الأكثر تعقيداً وذكاء من المخطط، والتي تختلف بدورها عن الشروط المطلوبة لبناء نظام إقليمي مستقل وديموقراطي ومزدهر، وأن تدرك انها ما زالت بعيدة عن توفير تلك الشروط، التي لا يتسع المجال الآن للاستفاضة في الحديث عنها. فعلى سبيل المثال، اذا كانت التعبئة الأيديولوجية، دينية أو مذهبية أو قومية، مفيدة مثلاً في حشد القوى ضد الأميركيين والصهاينة، فإنها ستتحول هي نفسها الى عبء وعنصر إعاقة وتفجير للحساسيات الموروثة، عندما سينتقل المخطط المعادي، وهو في سياق الانتقال، الى مرحلته الجديدة المعتمدة أساساً على إدارة تناقضات المنطقة، بعد تعثّر مرحلة ترويض قواها. واذا كان استحضار الموروث الثقافي عنصراً مفيداً في حماية الهوية الوطنية والدينية، فإن الاقتصار عليه، أو المبالغة فيه، يصبح عائقاً في وجه العصرنة والحداثة الخ.... في المحصلة، إن تصلّب بوش الراهن هو تصلب تكتيكي انتقالي، أو فترة تمهيد بالنيران إذا صح التعبير، للمرحلة المقبلة الحقيقية، التي ستأخذ بالكثير من مقترحات بيكر ــ هاملتون من دون ضجة. ولكن ليس من أجل إهداء التنازلات كما بدا على محيّا بعض أطراف الممانعة في الأشهر السابقة، بل من أجل استغلال نقاط ضعفهم، وهي كثيرة، ومن أجل إرهاقهم وعزلهم، قبل التفكير في مفاوضتهم. إن الجولات المقبلة من الصراع تحتاج إلى لياقة أيديولوجية وسياسية، لم نشهد الكثير منها خلال السنة الماضية، في بغداد وغزة وبيروت، وبقية أنحاء المنطقة، يبدو أنها لا تقول لبيكر ــ هاملتون وداعاً، بل الى اللقاء.
ــ عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني