نظام مارديني *
الاستراتيجيا الكردية الجديدة التي بدأت مع سقوط نظام صدام حسين في نيسان 2003، وُضعت مع بداية عام 2007 على نار حامية، لكن الخيارات النهائية لن تظهر على الأرجح قبل منتصف هذه السنة، بعدما جاء تقرير «بيكر ــ هاملتون» ليشكل إدانة كاملة للمشروع السياسي التقسيمي الدولي والداخلي الذي تبنّاه الرئيس الأميركي جورج بوش بعد هجمات 11/9 بدعم قوي ومثير للاستياء من رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير.
وبصرف النظر عن القرارات التحليلية من أن القوات الأميركية سوف تواجه عقبات ميدانية داخل العراق، في حجم ألغام كبيرة، إذا هي تراجعت عن دعم مشروع الدولة الكردية، فإن رفض إدارة بوش لتقرير «بيكر ــ هاملتون» وللتوجهات الأميركية الجديدة بعد سيطرة الحزب الديموقراطي على مجلسي الشيوخ والنواب سوف يقود إلى مواجهة عراقية ــ عراقية، بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة من صراع مرير للقوات الاميركية في العراق. فما يجري في العراق أثّر تأثيراً مباشراً في الجهد الحربي العام للولايات المتحدة، ولم يعد ممكناً اتخاذ أي قرارات حاسمة على المستوى الاستراتيجي خارج نطاق الدفاع، وباتت القدرة الاستراتيجية للحرب على جبهتين، داخل الولايات المتحدة وفي العراق، تصوراً نظرياً محضاً، وهو ما قلص مجال مناورات الإدارة الأميركية في كل الاتجاهات، وقد جاء خطاب الرئيس بوش الأخير حول استراتيجيته الجديدة، ليعكس نقاط الخلل بالسيناريوهات، وفقاً لمنظور البعد الاستراتيجي ولمتطلبات الحملة العسكرية في العراق، وليضع الادارة الاميركية أمام ثلاثة خيارات تراوح بين الانسحاب الشامل وهو خيار كارثي من وجهة نظر أميركية، والإبقاء على الوضع الحالي الذي يقود الى مؤديات خطيرة، واللجوء الى آخر الخيارات وهو تعزيز القوة العسكرية بموارد جديدة كما جاء في خطاب بوش الأخير.
بالاضافة الى ذلك توسيع عمليات «الموساد» في الداخل العراقي، لأن «إسرائيل» كانت ولا تزال تدعم المشروع الكردي في الانفصال. وبهذا المعنى يمكن القول إن بوش المحاصر بالتوصيات الـ79 لتقرير «بيكر ــ هاملتون» وبالاستراتيجيا الجديدة سوف يجد نفسه محاصراً بالتمرد الكردي والفوضى الجديدة لأن سنوات الاحتلال الثلاث مهّدت بالفعل لعراق منقسم لا لكيان سياسي واحد، بعدما أمسكت الجماعات التي أقصاها النظام السابق بزمام المبادرة، وقد حرص الأكراد على تثبيت حقوقهم الكاملة في قانون الدولة المؤقت الذي صدر برعاية الحاكم المدني الأميركي السابق للعراق بول بريمر، وتأصيل حق الفيدرالية بل الانفصال في الدستور العراقي الدائم الذي أمسك بأطرافه السفير الأميركي خليل زادة. وتحولت الرغبة الكردية وللمرة الأولى في تاريخ الدولة العراقية الحديثة إلى وثيقة قانونية ملزمة التطبيق تساندها قوى دولية في مقدمها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وتدعمها تطبيقات فعالة على الأرض العراقية وهذا ما يفتح باب النقاش في طبيعة العلاقات بين القوى الشيعية والكردية، وعما إذا كان يعني انهيار التحالف الشيعي ــ الكردي الذي شكل الغطاء الأساسي للاحتلال حتى الآن، في جملة ما يعنيه، إقحام دول الجوار بصورة مباشرة في المأزق العراقي، ودفع العرب إلى مزيد من المشاركة في المخطط الأميركي الرامي إلى وقف التمدد الإيراني. على الرغم من أن أكراد العراق يطالبون بتطبيق نظام فيدرالي واسع، فإن هذا الخيار له تكاليف صعبة عليهم في ظل التطورات التي تدور هناك، والتي ترجّح سيطرة التيارات الدينية الشيعية على الدولة العراقية الجديدة، وبالتالي فإن الاختصاصات المنوط بالحكومة الفيدرالية تطبيقها ستكون رهناً لهذا التيار بما يحمل من خطورة على الأكراد وهم من الفئات الأكثر علمانية في العراق في الوقت الراهن. وهذا الوضع يضع أكراد العراق الذين تبلغ نسبتهم بين 25 في المئة و30 في المئة من عدد سكان العراق أمام معضلة كبرى، فهم لن يرضوا بالسلطات المحلية الواسعة التي سيتمتع بها إقليمهم في ظل الفيدرالية، بل سيعملون على الحيلولة دون أن يكونوا ضمن إطار دولة دينية سواء سنية أم شيعية. وهم يدركون أن هناك خيوطاً حمراء إقليمية ودولية أمام مطلبهم التاريخي بأن تكون لهم دولة كردية مستقلة، وبالتالي فإن مستقبل العراق يمثل معضلة كبرى أمام الأكراد عليهم أن يضعوا حلولاً لها في ظل توازنات داخلية وإقليمية ودولية غاية في التعقيد. وهذا الوضع يتطلب البحث عن الخيارات المتاحة أمام أكراد العراق للتعاطي مع هذا الوضع المعقد في ظل ما هو متاح لهم من أوراق ومصادر قوة.
ومن هنا يمكن فهم لماذا يسعى الشيعة لإقامة دولة دينية، ولماذا يرفضون حكم عراق منقوص من الناحية الجغرافية والسياسية، بعدما تأكدوا أن مشروعهم الفيدرالي سقط حتى الآن، وهم سوف يقفون بصورة حاسمة أيضاً ضد أي طرح يعطي للأكراد الحق في الاستقلال وإقامة دولتهم المستقلة.
ومن هذا الأمر يمكن أن نفهم تنازل الشيعة أكثر من مرة مقابل الأكراد سواء تحت ضغوطهم داخل البرلمانات المؤقتة أم رضوخاً لضغوط أميركية لتحقيق مطالب كردية حتى لا يصبح خيار الاستقلال مطروحاً ويحرموا من حلمهم في حكم العراق الكامل والسيطرة على معظم ثرواته.
وإزاء هذا الوضع يكون هناك سيناريوهان يستطيع الأكراد اللجوء إلى أي منهما في مواجهة هذا الاحتمال، أي سيطرة شيعية على صنع القرار سواء كان مباشراً أو غير مباشر.
الأول الضغط بالوسائل المتاحة لهم من أجل التأكيد قانونياً ودستورياً على مدنية الدولة العراقية الجديدة، وفي مقدم هذه الوسائل الدول الخارجية الحليفة لهم سواء في الإقليم المجاور لهم أو خارج هذا الإقليم. ونجاح هذا السيناريو يتوقف على عوامل خارجة عن سيطرة الأكراد أنفسهم وأول هذه العوامل أوراق القوة المتاحة لدى الشيعة سواء في ما يتعلق بالتماسك الداخلي في ما بين فصائلهم المختلفة، أو في ما يتعلق بتحالفاتهم الدولية والإقليمية وعلى رأس ذلك بالطبع علاقتهم مع إيران ومدى توافق هذه الأخيرة مع المجتمع الدولي أو مدى صدامها معه.
ويمكن القول إن أكراد العراق يدركون جيداً أن التماسك الداخلي في ما بين فصائلهم أمر مهم وأساسي لكي يستطيعوا التصدي لأي احتمالات سيئة يمكن أن تطرح في مواجهتهم. من هنا نستطيع أن نفهم الأسباب التي تقف وراء الخطوة التي تمت ودفعت إلى توحيد الحزبين الكرديين الرئيسيين في شمال العراق وهما الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال طالباني، والحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود البرزاني رئيس الحكومة المحلية في شمال العراق، الذي يسعى لتأسيس دولة مستقلة يكون هو رئيسها في حكومة واحدة تتولى الأمور في مناطق سيطرتهم في شمال العراق. وهذه الخطوة اعتبرت الأولى على صعيد تفكيك العراق وتقسيمه.
أما السيناريو الآخر المتاح أمام أكراد العراق للتعامل مع إمكانية تأسيس دولة دينية، فهو الابتعاد عن المستنقع العراقي بكامله والسعي إلى تأسيس دولة مستقلة للأكراد، بعيدة حتى من أي فيدرالية متوقعة. والأكراد يدركون أن هذا السيناريو تقف دونه عقبات كبرى لأنه يعيد رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط من جديد، فضلاً عن أنه يقف أمام مصالح القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة وتصوراتها، القوى التي ترفض تقسيم العراق على أساس عرقي ومذهبي، لأن العدوى يمكن أن تنتقل إليها، أو التي ترفض أن تكون هناك دولة شيعية بجانب إيران بما يدخل المنطقة في مرحلة تأسيس دويلات على أساس مذهبي، ويفتح أبواب الفوضى وعدم الاستقرار الطويل فيها.
وهنا تجب الإشارة إلى أن خيار الاستقلال وتأسيس دولة كردية كان يمكن توقعه منذ سنتين لو سارت الأمور في العراق حسبما خطط له المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، وكان منطقياً ضمن سياسة الفوضى الخلاقة التي رأت أجنحة في الإدارة الأميركية الحالية أنها يمكن أن تخلق الشرق الأوسط الجديد، وفي هذا الوقت كان متوقعاً ألا تذعن الولايات المتحدة لرغبات حلفائها في المنطقة وتصوراتهم ومطالبهم، لأن التخلص من هؤلاء الحلفاء أنفسهم كان وارداً أو مطلوباً من أركان الإدارة الأميركية، أما الآن فأصبحت السياسة الأميركية تخضع للتوازنات القديمة التي أحد أبرز أسسها هو الحفاظ على مصالح الحلفاء المحليين للولايات المتحدة الأميركية وقبل تنفيذ هذه السياسة.
وهذا كله يعني أن هامش التحرك والمناورة أمام أكراد العراق قد أصبح الآن محدوداً أكثر من ذي قبل، ويتطلب ضغوطاً محلية قوية من الأكراد على شيعة العراق. وهو ــ وإن كان الأفضل بالنسبة إلى الأكراد لأنه يبعدهم عن سيناريو الدولة الدينية ويحقق حلمهم في الاستقلال ــ يمكن أن يحقق مصالح للشيعة أيضاً، لأنه سوف يسهل عليهم تأسيس دولتهم الدينية التي ستكون الأقليات العرقية والمذهبية فيها محدودة مقارنة مع ما إذا كانت ستقام في كل العراق من الناحية الجغرافية.
على الرغم من ذلك كله فإن هذا السيناريو صعب التحقيق ويتطلب نضالاً كردياً على أكثر من مستوى، وبالتالي فإن خيار الفيدرالية ضمن دولة ليست دينية هو الخيار الأكثر واقعية وإمكانية للتحقيق بالنسبة إلى الأكراد، لأن نار الدولة الدينية الشيعية قد تحرق الجميع لا الأكراد فقط.
* كاتب سوري