تستخدم تركيا وسائل شتّى لاستعادة علاقة مع العالم العربي انقطعت مع زوال السلطنة العثمانية. تفيد الإضاءة على التجربة التاريخية للسلطنة. يعرض النص كيفية تكوّن النخب في السلطنة، وعلاقة هذه الأخيرة بالخارج الممثّل بالغرب، ودور هذين الأمرين في اعتمادها خيارات اقتصادية أسّست لفشلها التنموي، وجعلت أقاليمها، خصوصاً العربية منها، ضحية هذا الفشل.
الخيالة والأعيان وقطّاع الطرق

خلال القرنين الأوّلين من الحقبة العثمانية، اعتمدت السلطنة نظام التيمار لمكافأة النخب العسكرية والإدارية. وهو يقوم على توزيع أراضي السلطنة على خيّالة الأقاليم والنخبة الإمبراطورية على أساس المداورة. أي أن المستفيدين منه لم يكونوا يستطيعون تملّك الأرض بشكل نهائي، ولم يكونوا يستطيعون توريثها لأولادهم. في ما بعد، انتزعت الدولة من خيّالة الأقاليم الذين لم يتمكنوا من استبدال سيوفهم بالسلاح الناري حيازاتهم وأعطتها مكافأة لمن كانوا يحاربون في جيشها وفق الشروط الجديدة للحرب (باركي، 1994: 75). توزّعت الأرض الممنوحة إلى حيازات صغيرة اسمها تيمار، وكبيرة اسمها زعامات. كان المستفيد من هذه الأخيرة يسمى زعيماً. كان هدف السلطنة من إعادة التوزيع الدورية للأرض منع المستفيدين من تكوين قاعدة موالين محلية يمكن استخدامها ضد السلطنة. كان النظام المعمول به مختلفاً عن نظام الإقطاع الأوروبي الذي يقوم على ملكية الإقطاعيين الدائمة للأرض.
خلال القرنين الأوّلين اعتمدت السلطنة نظام التيمار لمكافأة النخب العسكرية والإدارية

تخلّت السلطنة عن نظام التيمار بدءاً من القرن الثامن عشر واستبدلته بنظام تلزيم الجباية إلى أعيان الاقاليم ومن يدفع أكثر. سمى بعض المؤرخين هذه الحقبة، حقبة «التحوّل إلى النظام الإقطاعي في السلطنة»، وسمّاها آخرون حقبة «خصخصة السلطة المحلية». وهي أرست نوعاً من لامركزية موسّعة في أنحاء السلطنة. استمر الأمر على هذا النحو حتى نهاية عمر السلطنة، بما في ذلك حقبة ما بعد «التنظيمات» خلال التاسع عشر، التي استمر الأعيان خلالها يتولّون الجباية.
أقام الباحثون تعارضاً بين سيرورة تكوّن الدولة الحديثة في الغرب وتمركزها (centralization) وبين تجربة السلطنة العثمانية في هذا الميدان. في الحالة الأولى، وقفت الطبقة الأرستقراطية ضد سياق تمركز الدولة. وقد حصل هذا الأخير على حسابها وانتزع منها استقلاليتها وسلطتها. في الحالة العثمانية، كان يقابل نمو السلطة الاقتصادية والسياسية للأعيان، تراجع متزايد لقدرة الدولة المركزية على التحكّم بالإنتاج والمبادلات (فالرشتاين وآخرون، 1987: 91). أصبح الأعيان هم من يحدّد ما الذي ينبغي إنتاجه ووجهة تسويق الإنتاج.
كان تجهيز جيوش وفق الشروط الحديثة للحرب يتطلّب موارد لم تكن السلطنة قادرة على توفيرها، خصوصاً وأنه تم خفض القدرة الشرائية الخارجية لعملتها خمس مرات بين آخر السادس عشر ومنتصف السابع عشر (زانس، 2011: 438). وقد انكشف ضعف السلطنة أمام النخب المحلية خلال النصف الثاني من الثامن عشر لمناسبة الحروب مع كاترين الثانية (1768-1774) (ماك-غوين، 1994: 658). وهي عوّلت على القوى غير النظامية (irregular) التي وفّروها لخوض هذه الحرب. وبنهاية القرن الثامن عشر، كان ثلثا الأراضي السلطانية قد باتا بأيدي الأعيان (المصدر نفسه: 660).
تطوّرت الإقطاعات الكبرى في غرب الأناضول ومحيط البحر الأسود والبلقان وبلاد الشام على وجه الخصوص، وهي مناطق كان لها قاسم مشترك هو سهولة التواصل بينها وبين أسواق التصدير في أوروبا (زانس: 439). وقد تولّى «الأعيان الكبار» الذين استثمروا هذه المناطق تصدير الحبوب والتبغ والقطن والصوف والحرير إلى أوروبا، رغماً عن إرادة السلطنة في بعض الأحيان. واكتسبوا أهمية أكبر بنظرها حين أخذوا على عاتقهم حماية الحدود، كما كان شأن آل الجليلي في الموصل، أو الجزار باشا في إيقاف نابوليون عند أسوار عكا (المصدر نفسه: 440).
تكوّنت فئة الأعيان من الأعيان الكبار، أو «ملتزمي الجباية» (mültesim) الذين كانوا يحصلون على هذا الالتزام من السلطنة، إما بتكليف مباشر منها أو بشراء الالتزام في المزاد العلني. وكان هؤلاء يؤجّرون الالتزام أو يوزّعونه على الأعيان المحليين، واسمهم «المتزلّمون» (mütesellim)، الذين يتولون الجباية على الأرض. كان المتنافسون على الالتزام يخوضون صراعات على مستوى الإقليم مع منافسيهم للحصول عليه. وكان «المتزلّمون» في حالة صراع دائم مع بعضهم البعض للحصول على التكليف بالجباية المحلية. كانت مدّة الالتزام ثلاث سنوات، ومدّة التوكيل الذي يحصل عليه «المتزلّم» أو المقاطعجي المحلي، ثمانية عشر شهراً (المصدر نفسه: 441). وكان هؤلاء يُخضِعون فلاحيهم لشتى أنواع العسف لجعل استثمارهم مربحاً. أسهمت حقبة الأعيان في السلطنة في إفراغ مناطق من فلاحيها. كان هؤلاء لا يفتأون يهربون من عسف وتسلّط المقاطعجيين.
كانت مقاربة السلطة المركزية للعلاقة مع النخب في الأقاليم، هي استيعابها (incorporation). يصح ذلك أيضاً في العلاقة مع فئة قطّاع الطرق (bandits) الذين مثّلوا نسبة مهمة من نخب الأقاليم. ترافق تمركز الدولة الأوروبية مع إنشاء جيوش مضبوطة بنظم وقوانين والتخلي تماماً عن فئة قطاع الطرق والمجرمين في تكوين هذه الجيوش (ميوللر، 2002). أما السلطنة فقد بقيت تعتمد على هذه الفئة بالذات في الكثير من المهمات.
كانت الممارسات الترهيبية (terror tactics) عنوان علاقة قطّاع الطرق بجمهور الفلاحين (باتالاس، 2002: 154). وذلك على النقيض الكامل للصورة المتخيّلة والمناقضة للواقع التي رسمها إريك هوبسباون لهذه الفئة (فاغنر، 2007: 356). كان هؤلاء في حقيقة الأمر «أشرار المجتمع الريفي» كما تقول كارن باركي (باركي: 21). وقد أرست السلطنة نوعاً من قاعدة تمثّلت بإيكال مهمة التصدي للمجرمين والخارجين على القانون إلى أناس من الفئة ذاتها (باتالاس: 161). لعب قطّاع الطرق دوراً أكثر اتساعاً مع صعود فئة الأعيان ودورها في السلطنة. كان «ملتزمو الجباية» و«المتزلّمون» من الأعيان المحليين الذين يتولّون الجباية على الأرض، يستعينون بهم للسطو على مناطق منافسيهم وتخريبها (زانس: 445).
عملت السلطنة على تفتيت النخب، ووضع كل واحد من أفرادها في مواجهة الآخر، بحيث كانت الخلافات داخل النخبة تمنع اجتماع أفرادها للتصدي للسلطنة في أي أمر (باركي: 55-57). وقد كان هدف نخب الأقاليم أن يصار لقبولها في هرمية السلطنة. كانت نخب الأقاليم متعاونة ومتواطئة على الدوام مع السلطة الخارجية التي تمثلها السلطنة. وحين كانت تثور عليها، كان الهدف من ذلك تحسين موقعها في الهرمية الإمبراطورية.

السلطنة بعد 1838: السيادة «المعلّقة» والتبعية للخارج

عملت إنكلترا كدولة مسيطرة (hegemon) خلال القرن التاسع عشر على استتباع أغلب مناطق العالم، إما بالاحتلال المباشر (formal empire) أو بالتأثير في الحكومات المعنية من دون احتلال (informal rule) (غالاهر وروبنسون، 1953). قسّم روبنسون تاريخ استعمار الغرب لبلادنا والعالم إلى مرحلتين (روبنسون، 1972). في المرحلة الأولى (1820-1870)، سادت «إمبريالية تحرير التبادل»، حيث أجبرت إنكلترا بلدان العالم على توقيع اتفاقيات غير متكافئة معها تتناول إزالة العوائق على التبادل وإسقاط الحماية عن المنتجين المحليّين وتجنيد هؤلاء لخدمة أسواق الغرب وتوفير قروض تستخدمها هذه البلدان لتطوير البنى التحتية التي تعزّز المبادلات مع الخارج. كانت اليابان من الدول التي استطاعت إنكلترا أن تجبرها على توقيع اتفاقية تحرير للتبادل معها عام 1858. أوقعت القروض الموفّرة البلدان المعنيّة في أزمات مديونية واستدرجت ردات فعل عنيفة ممن يقع عليهم تسديدها. بدأت حينئذ المرحلة الثانية من الاستعمار، حيث لجأت إنكلترا إلى الاحتلال المباشر لهذه البلدان. سيتطور الأمر إلى تنافس بين القوى الغربية حول من سيتمكّن منها من وضع اليد على أكبر عدد من هذه البلدان. وقد أعطت تونس في 1881 ومصر في 1882 نموذجين لبلدين استدرجت مديونيتاهما احتلال القوى الاستعمارية لهما.
مثّلت التبعية أهمّ عنصر في تعريف واقع المنطقة خلال الفترة الممتدة من النصف الأول من التاسع عشر حتى هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى. وهي لم تصبح قدراً للمنطقة إلا لأن سيادة السلطنة العثمانية على أراضيها كانت «معلّقة» (in abeyance). وهو أمر عبّر عنه نظام الامتيازات العثماني (capitulations) و«الاتفاقيات غير المتكافئة» التي وقعتها السلطنة مع الدول الأوروبية خلال التاسع عشر.
اعتبر فالرشتاين أن الانتقال إلى نظام الالتزام ترافق مع إعطاء امتيازات كانت لا تفتأ تزداد للتجار الأوروبيين في السلطنة، وأن لجوء هذه الأخيرة إلى هذين الحلّين كان لمواجهة أزمة ماليتها العامة المتردية على الدوام (فالرشتاين وآخرون: 90). عكس نظام الامتيازات الذي وُقِّعت أول اتفاقية بشأنه عام 1536 بين السلطنة العثمانية وفرنسا، تخلّياً من الأولى عن تطبيق قوانينها على الأوروبيين الموجودين في أراضيها. جعل هذا النظام الرعايا الأوروبيين في السلطنة يخضعون في القضايا المدنية والجنائية للقانون والأنظمة السائدة في بلدهم الأم، والتي يتولى القنصل المقيم تطبيقها. أي جعل الأوروبيين وقنصلياتهم يتعاطون مع هذه الأمور كما لو كانوا خارج السلطنة (extra-territoriality) (أوغستي، 2011). لم يلحظ نظام الامتيازات معاملة بالمثل من قبل الأوروبيين للتجار العثمانيين. ولم يرَ فيه السلاطين الأوائل ما ينتقص من سيادتهم.
خلال الفترة اللاحقة، أي بعد مؤتمر وستفاليا المنعقد عام 1648، الذي أرسى قاعدة سيادة الدول الأوروبية على أراضيها، لم تعتبر هذه الدول أن عليها أن تفيد السلطنة العثمانية من هذه القاعدة. خلال التاسع عشر، اعتبر القانونيون الأوروبيون الذين وضعوا القانون الدولي المعتمد، أن احترام سيادة الدول في العلاقات في ما بينها يقتصر على «الدول المتحضّرة» منها، واستثنوا السلطنة العثمانية من هذه الصفة (المصدر نفسه: 288).
وقّعت الدول الأوروبية مع السلطنة في مؤتمر باريس عام 1856 بعد حرب القرم، اتفاقية أقرّت فيها بحق هذه الأخيرة بالسيادة على أراضيها. طالب ممثل السلطنة بإلغاء نظام الامتيازات الذي يتعارض بشكل مهين مع ما تم التوافق عليه. رفضت الدول الأوروبية التخلّي عن هذا النظام، بناءً على الحجة ذاتها وهي أن السلطنة لا تنتمي إلى نادي الدول المتحضّرة، وجرى تأكيد ذلك مجدداً في اتفاقية 1878 (المصدر نفسه: 306). لم تنفع «التنظيمات» التي أقرّتها السلطنة في عامي 1838 و1859، والتي انطوت على اعتماد القوانين والنظم الأوروبية في مجالات التشريع كلها في ضمها إلى نادي «الدول المتحضّرة». ولم توافق الدول الأوروبية على إزالة نظام الامتيازات، والسماح باستعادة تركيا سيادتها «المعلّقة» على أراضيها، إلا في مؤتمر لوزان لعام 1923، أي بعد زوال السلطنة (المصدر نفسه: 307).
أشار فالرشتاين إلى أن نظام الامتيازات لم يعد منذ منتصف الثامن عشر حقوقاً لأشخاص منحها السلاطين العثمانيون بملء إرادتهم، بل اتخذ شكل اتفاقيات ثنائية كان ممنوعاً على السلطنة أن تتراجع عنها من طرف واحد. جاء توقيع هذه الاتفاقيات مع تزايد حاجة دول أوروبا إلى المحاصيل الزراعية التي تنتجها أقاليم السلطنة، وانتزاعها من هذه الأخيرة امتيازات تجارية إضافية لها (فالرشتاين: 92).
وقّع السلطان محمود الثاني معاهدة كوتاهية مع إنكلترا عام 1838 التي كانت «اتفاقية تحرير للتبادل» أباحت اقتصاد السلطنة وأقاليمها للقوى الغربية وضربت بعرض الحائط مصالح منتجيها وفرّطت بسيادتها، مقابل دعم هذه القوى له لضرب محمد علي باشا وتجربته الرائدة في التحديث وبناء الدولة الوطنية. مثلت تجربته حالة نموذجية لنخبة إمبراطورية استدعت بنفسها التدخّل الخارجي للاستقواء به وضمان استمرار سلطتها.
وقّعت السلطنة العثمانية اتفاقية ثانية لتحرير التبادل مع إنكلترا في عام 1861. نصّت هذه الأخيرة على إزالة العوائق الجمركية التي كانت لا تزال قائمة على التصدير (أوين، 1981: 165). وشجّعت إنكلترا السلطنة على تطوير زراعة الحبوب لأنه كان أسهل عليها أن تتحكّم بقراراتها، مقارنة بالمنتج الأكبر للحبوب آنذاك الممثّل بروسيا القيصرية التي لم يكن ممكناً إجبارها على تحرير مبادلاتها (غالاهر وروبنسون: 11).

اقتصاد السلطنة في آخر أيامها

كانت السياسة الاقتصادية التي اتبعتها السلطنة خلال العقود الأخيرة من عمرها انعكاساً لتبعيتها للخارج وسيادتها المعلّقة على أراضيها. عكست الخمسون سنة الأخيرة من عمرها عجزاً كاملاً من قبلها عن المساهمة في مجهود التنمية. قدمت الباحثة الإيطالية ستيفانيا أتشيا صورة للسياسة الاقتصادية التي اعتمدتها السلطنة العثمانية خلال حقبتي عبد الحميد الثاني و«تركيا الفتاة»، بالاستناد إلى أعمال كبار الباحثين المختصين كـَ روجر أوين وشوكت باموك وكمال كربات وخليل إينالسيك ودنيز أكارلي. استدانت السلطنة بدءاً من منتصف التاسع عشر من القوى الاستعمارية الغربية للإنفاق على البنى التحتية للمواصلات الآيلة إلى تعزيز دورها بوصفها اقتصاداً زراعياً ينتج سلعاً للتصدير. خلال الربع الأخير من التاسع عشر، كانت خدمة الدين العام تستحوذ على 60% من الإنفاق العام (أتشيا، 2010: 2). وقبل الحرب العالمية الأولى، كانت خدمة الدين العام لا تزال تستهلك 30% من هذه المداخيل، في حين كانت نسبة 40% من المداخيل الحكومية تذهب لتمويل الإنفاق العسكري (المصدر نفسه: 4). اقتصر دور السلطنة التنموي على بناء خطوط سكك الحديد التي كان يعوّل عليها لربط المناطق الزراعية بالأسواق الداخلية والخارجية وتعزيز المداخيل الضريبية المحصّلة من هذه المناطق.
أعلنت السلطنة عام 1876 توقفها عن الدفع لديونها. فتدخّلت القوى العظمى الأوروبية وأنشأت جهازاً إدارياً مكوّناً من ممثلي ست دول غربية تولى الإشراف على ماليتها العامة لتعزيز مداخيلها ودفع ديونها. عوّلت السلطنة في ميدان إيرادات المالية العامة على ثلاثة أنواع من الضرائب، أولها التي تطاول القطاع الزراعي، وهي ضريبة العشر والضريبة على المواشي، وثانيها الرسوم على التجارة الخارجية. كان مردود هذه الأخيرة ضعيفاً، بحكم أن السلطنة وقّعت «اتفاقيات تحرير للتبادل غير متكافئة» مع الدول الغربية حرمتها من تحصيل إيرادات ذات أهمية من الرسوم الجمركية على الواردات وعلى الصادرات. عام 1861 كانت الرسوم على الواردات بنسبة 8% والرسوم على الصادرات بنسبة 1%. وكانت ثمة رسوم جمركية داخلية فرضتها السلطنة على انتقال السلع بين الأقاليم بنسبة 8% استمر العمل بها حتى 1909، وجسّدت المصدر الأهم لمداخيل السلطنة (المصدر نفسه: 5). كانت ثمة رسوم أخرى تحصّلها السلطنة من الاحتكار الحكومي لتسويق سلع بعينها كالملح والتبغ والكحول وغير ذلك. وقد أوكلت إدارة هذه الاحتكارات لشركات أجنبية. وكانت المداخيل التي تحصلها هذه الأخيرة تذهب إلى جهاز «إدارة الدين العام» لتسديد الفوائد على هذا الدين. وقبل الحرب العالمية الأولى، كانت «إدارة الدين العام» تستحوذ على ثلث المداخيل الحكومية (المصدر نفسه: 8). وقد منع نشوب هذه الحرب السلطنة من إعلان توقفها تسديد ديونها للمرّة الثانية.
يُظهر العرض أعلاه أن السلطنة العثمانية وسلطة الاحتلال الإنكليزي لمصر بعد 1882 تولّتا حتى الحرب العالمية الأولى، شفط الفائض الاقتصادي للمشرق العربي بكامله، وتحويله إلى الغرب على صورة فوائد مدفوعة على الدين العام. بل يمكن اختصار علاقة السلطنة بالمشرق العربي وبقية الأقاليم، بأنها كانت ترى فيها مصدراً للمداخيل الضريبية، أوكلت غالباً إلى قطّاع طرق أمر جبايتها، وباتت منذ منتصف التاسع عشر ترسلها إلى الغرب.

العلاقة بين الدولة والنخب

استعرض بيتر إيفانز في نص تأسيسي صدر عام 1995 أعمال المفكرين المنتمين إلى تيار المؤسساتية المقارنة (comparative institutionalism)، لجهة نظرتهم لعلاقة الدولة بالسوق ودور الدولة في التنمية. أوضح كارل بولانيي من بين هؤلاء أهمية السياسات (policies) التي اعتمدتها الدولة في الغرب لتسهيل نشوء علاقات السوق وتوسعها، وأوضح ماكس فيبير أهمية دور البيروقراطية الحكومية (structures) في نمو الرأسمالية بوجه عام، وأظهر مفكرون آخرون كـَ ألكسندر غرشنكرون وألبير هيرشمان الدور الذي على الدولة أن تلعبه لتحقيق التنمية بوصفها «تصنيعاً متأخراً»، وخصوصاً العلاقة التي تنسجها مع أوساط رجال الأعمال (state-society relations) لهذه الغاية (إيفانز، 1995: 21-42).
تتيح الصورة المرسومة للسياسة الاقتصادية للسلطنة إظهار أنها بقيت تعوّل في مداخيلها بشكل رئيسي على الضرائب المحصّلة من القطاع الزراعي، والتي وفّرها التوسّع في استثمار اراضٍ زراعية كانت مهملة. وقد أتاحت هذا التوسّع هجرات المسلمين المتعاقبة من مناطق البلقان ومن روسيا بعد حرب القرم ( كربات، 1985).
أشار فالرشتاين إلى ذهاب الإدارة الحكومية للسلطنة إلى مزيد من الضعف (weakening) على مدى العقود الأخيرة من عمرها، بل هي كانت في حالة من الفوضى العارمة. وهو الأمر الذي كان جليّاً في المقارنة بينها وبين الإدارات الحكومية في البلدان الأوروبية، وفي تراجع قدرتها على التحكّم بالسياقات الداخلية (فارشتاين: 95). انتظرت السلطنة حتى 1863 لتكون لها موازنة عامة، و1880 ليكون لها جهاز محاسبة عمومية وتدقيق (أتشيا: 2). ولم تنجح في جعل الإدارة الحكومية تحل محل ملّاك الأرض المحليّين في تحصيل الضرائب (المصدر نفسه: 8). مثّل الانتقال من نظام التيمار إلى نظام الالتزام أو بيع توكيل الجباية لمن يدفع أكثر، تردياً كبيراً في أوضاع المنتجين. كان المقاطعجيون يحصّلون ضريبة الدولة الممثلة بضريبة العشر وضريبة الأعناق، ويأخذون لأنفسهم نصف ما يتبقى من الإنتاج (فالرشتاين: 91). أدى الانتقال إلى نظام الالتزام وتعمّم هذا الأخير إلى خسارة المزارعين المستقلين ملكياتهم وتحوّلهم إلى مرابعين لدى الأعيان المقاطعجيين. وحين أنشأت السلطنة المصرف الزراعي عام 1881، استخدمت أمواله لتسديد ديونها (أتشيا: 7).
تولى المقاطعجيون إقراض المزارعين بفوائد ربوية، ما جعل هؤلاء الأخيرين في حالة مديونية دائمة تجاههم. ولم يكن من مصلحة المقاطعجيين أن تتحسّن إنتاجية هؤلاء، لكي لا يتحرّروا من ديونهم ويستقلوا عنهم. ولطالما شهدت أقاليم السلطنة حالات هروب وتخلٍّ عن الأرض فردية وجماعية من قبل الفلاحين للتخلّص من الأعباء الفائقة الموضوعة على عاتقهم.
أما خارج القطاع الزراعي، فقد وضعت الرسوم الجمركية الداخلية التي فرضتها السلطنة على المنتجين المحليّين هؤلاء في حالة عدم قدرة على منافسة السلع الأجنبية التي كانت معفاة من هذه الرسوم. أسهم هذا الأمر، مع دخول السكك الحديدية إلى أقاليم السلطنة في انهيار النشاطات الحرفية في هذه الأقاليم (المصدر نفسه: 5 و12).
أوضح ألبرت حوراني كيف استخدم أعيان المدن الكبرى علاقتهم بالولاة لتحويل القرى والمناطق التي يتولّون الجباية منها إلى ملكيات خاصة لهم. وأظهر مقدرتهم الفائقة على افتعال أزمات تموين كوسيلة ضغط من قبلهم على ممثلي السلطة المركزية. وأظهر خضوع هؤلاء الكامل لسلطة ونفوذ الأعيان المحليّين (حوراني، 1968).
وإذا أخذنا في الاعتبار أن النخب المسيطرة كانت نخباً زراعية، ممثّلة بالأعيان ملّاك الأرض الكبار، وأن يد السلطنة كانت مكفوفة لجهة مقدرتها على حماية صناعات ناشئة، بفعل حرية التبادل التي فُرضت عليها، فإنه لم يكن بإمكانها أن تتولى وضع مشروع «تصنيع متأخّر» موضع التنفيذ، بالتعاون مع فئات رجال الأعمال. قامت إذاً علاقة بين الدولة والمجتمع، عنوانها غياب أي مشروع تحويل اقتصادي (economic transformation)، أي حالة انعدم فيها وجود أي مردود تنموي للعلاقة بين الدولة من جهة والنخب الاجتماعية من جهة أخرى (zero-sum). كان همّ النخب تأمين سيطرتها اجتماعياً (social control)، وانتفت لدى الدولة أية إرادة للتحويل الاقتصادي.
* أستاذ جامعي

المراجع


Augusti Eliana, “From Capitulations to Unequal Treaties: The Matter of an Extraterritorial Jurisdiction in the Ottoman Empire”, Journal of Civil Law Studies, Vol. 4, 2011, pp. 285-307.
Barkey Karen, “Ottoman Regional Elites: Divided but Loyal”, in Bandits and Bureaucrats: The Ottoman Route to State Centralization, Ithaca: Cornell University Press, 1994, pp. 55-83.
Batalas Achilles, “Send a thief to catch a thief : state-building and the employment of irregular military formations in mid-nineteenth-century Greece”, In Diane E Davis & Anthony W Pereira (Eds.), Irregular armed forces and their role in politics and state formation, New York, NY: Cambridge University Press, 2002, pp. 149-177.
Ecchia Stefania, “ The economic policy of the Ottoman Empire (1876-1922)”, MPRA Paper, University of Salerno, 2010.
Evans Peter, "A comparative Institutional Approach", in P. Evans, Embedded Autonomy: States and Industrial Transformation, Princeton Univ. Press, 1995, pp. 21-42.
Gallagher John, Ronald Robinson, “The Imperialism of Free Trade”, in Economic History Review , 2nd series, 6, 1, 1953, pp. 1-15.
Hourani Albert, ‘Ottoman Reform and the Politics of Notables”, in Polk and Chambers (eds.), The Beginning of Modernization in the Middle East, Chicago: Univ. of Chicago Press, 1968, pp. 41-58.
Karpat Kemal, Ottoman Population, 1830-1914: Demographic and Social Characteristics, Madison, Wis. : University of Wisconsin Press, 1985 .
McGowan Bruce, “The Elites and their Retinues” (pp. 658-680), in “ The Age of the Ayans, 1699-1812”, in Halil Inalcik, Donald Quataert (eds.), An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1300-1914, Cambridge univ. Press, 1994, pp. 637-758.
Mueller John, “The Remnants of war: Thugs as Residual Combatants”, in Annual Symposium of American Political Science Association, July 29, 2002, 43 pages.
Owen Roger, “The provinces of greater Syria, 1850-1880: the economic and social tensions of the 1850s and their consequences” in R. Owen, The Middle East in the World Economy, 1800-1914, London: I.B. Tauris, c1981, repr.1993.
Robinson Ronald, “Non-European Foundations of European Imperialism: Sketch for a Theory of Collaboration’, in Owen, Roger, Robert Sutcliff (eds.), Studies in the theory of imperialism, London: Longman, 1972, pp. 117-140.
Wagner Kim, “Thuggee and Social Banditry Reconsidered”, The Historical Journal , 50(02), 2007, pp. 353-376.
Wallerstein I, H. decdeli, R. Kasaba, “The Incorporation of The Ottoman Empire into the World Economy”, in Huri Islamoglu-Inan (ed.), The Ottoman Empire and the World Economy, Cambridge, U.K: Cambridge University Press, 1987, pp. 88-97.
Zens Robert, "Provincial Powers: The Rise of Ottoman Local Notables (Ayan)", in History Studies: International Journal of History, Vol. 3:3 (2011), pp. 433-47.