روجيه نبعة *
منذ اغتيال الرئيس الحريري، يتركّز السجال السياسي في لبنان، على مسألة «السيادة»، مسألة فتحت نقاشاً عنيفاً بين معسكرين يتقاذفان باستمرار تهم إعاقة تحقيق «السيادة الوطنية».
ليس هذا النقاش سوى موضوع إشكالي قديم يتجدّد مع كل حدث ومناسبة، وهو حرص سيادي تتسلّح به المجموعات اللبنانية ضدّ أعداء متعدّدين. ولفهم خلفيات اللبنانيين ومقاصدهم من اهتمامهم بسيادتهم، وجب علينا طرح ثلاثة أسئلة جوهرية: من هي الجهة التي تثير هذا الخطاب «السيادي»؟ لماذا اختيار توقيت إثارة هذا الخطاب في ظروف معيّنة؟ وأخيراً سؤال عن هويّة العدو المطروح: ضد من يُثار هذا الحرص؟
أمّا الإشكالية التي ستوجّه تمحيصنا في هذا الإطار، فهي التالية: إنّ العودة الى جذور مفهوم السيادة في أوروبا ما بين القرنين 15 و18 تفرض علينا اكتشاف نوعية المشاكل التي جاءت السيادة لتقترح الحلول الناجعة لها، لذا في ظل أية ظروف حصل ذلك، ومن خلال أية وسائل؟ هل من المشروع إسقاط مفهوم ما ــ ظهر ليجيب على أسئلة معيّنة في مكان وزمان محدّدين ــ على إطار مختلف تماماً عن نشأة هذا المفهوم؟ مقابل أي ثمن وبأية شروط يجوز ذلك؟ بتعبير أدقّ، هل يمكن الحديث عن السيادة في لبنان، قبل التأكّد من مدى توافر «عناصر السيادة» فيه؟
لقد نشأ مفهوم السيادة في أوروبا بالتزامن مع ولادة عصر الحداثة، للإجابة عن أزمة «سلطة الحق الإلهي». هو مفهوم أطلقه ماكيافيلي، بلوره نظريّاً بودان، هوبز وروسو، وكان الهدف منه «شرعنة» الدولة الحديثة مع انتقال «السلطة المطلقة» من سيادة إلهية إلى «سيّد بشري». وحسب مصطلحات منظّري هذا المفهوم، يمكن اعتبار الأمّة الواحدة بمثابة الإنسان الواحد، من خلال وحدة القوانين، المصالح والحكومة، ما يجعل من هذه الأمة جسماً سياسياً موحّداً.
يمكن اعتبار السيادة، كنتيجة لمسار تاريخي من الصراع ضدّ عدوّين: «العدو الداخلي»، بهدف إحلال السيادة الداخلية من خلال «العقد الاجتماعي»، وكل ذلك للتمكّن من تحقيق «السيادة الخارجية» على المسرح الدولي، حيث على الدولة أن تفرض نفسها كـ«مستقلّة» في وجه النزعة التوسعية للدول المجاورة، والتي تُعتبر «العدو الخارجي». من خلال هذه القراءة، نلاحظ أنّ المفهوم الأوروبي ربط السيادة ــ انطلاقاً من إرث الثورات البريطانية (1642)، الأميركية (1776) والفرنسية (1789)... ــ بـ«الدولة ــ الأمة» التي كرّسها نظام وستفاليا عام 1648، لاعباً دولياً وحيداً.
أمّا في لبنان فتكمن المعضلة في منح هذا البلد «استقلالاً» و«سيادةً» لا تتوافر لهما العناصر الضرورية، ما أدّى الى تناقض واضح ما بين السيادة والاستقلال: بدءاً من أزمة الاستقلال (1940\1943)، الى الأزمة الناصرية (1958) والفلسطينية (1970\1982)، ثمّ السورية (1975\2005)، وصولاً الى الأزمة السورية ــ الإيرانية الحالية، كلّها عوامل أثبتت العجز اللبناني المزمن عن إقامة دولة سيّدة ومستقلّة.
يَُطرح السؤال عن وظيفة الخطاب السيادي في هذا الإطار بالتحديد: إذا كانت السيادة والاستقلال مستحيلين في الواقع والقانون، لماذا نستخدم الخطاب السيادي مادّةً للصراع السياسي في لبنان منذ عام 1970؟
في ظل المواجهة الجيو ــ سياسية بين القوى الدولية من جهة، والقوى الإقليمية من جهة أخرى للسيطرة على المنطقة، يضع الخطاب السيادي الدولة اللبنانية الى جانب المعسكر الغربي. إذ في تشديده على السيادة الوطنية، يتوخّى هذا الخطاب التعمية على حقيقة تاريخية، وهي أنّ الاستقلال والسيادة مُنحا للبنان بسبب حاجة القوى الغربية إلى وجود هذا البلد. في المقابل، يقضي التوظيف الداخلي للسيادة بأن تكون هذه الأخيرة أداة بيد طائفة سياسية لفرض «غلبتها» على الطوائف الأخرى. إذا كانت الطائفة المارونية هي التي حقّقت تلك «الغلبة» بفضل الخطاب السيادي والدعم الغربي لها منذ الاستقلال حتّى اتّفاق الطائف، فإنّ هذه الأداة باتت، منذ اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية، بيد تحالف متعدّد الطوائف بقيادة «سنّية»، لمحاولة فرض «غلبتهم» في المشهد الشرق الأوسطي الكبير. أخيراً، وبما أنّ مستقبل لبنان يتحدّد وفق مشروع إعادة النظر في الكيانات التي ستؤلّف الشرق الأوسط الكبير، فإنّ الخطاب السيادي يُوَظَّف في تحديد العدو الجديد الذي ينبغي بناء الاستقلال والسيادة في وجهه، كما في تحديد هوية الحليف الدولي الذي، من دونه، لا يمكن إنجاز هذين المشروعين.
لمواجهة الخطاب الجيو ــ سياسي للسياديين اللبنانيين، نشأت «نظرية» سيادية من نوع آخر، هي أيضاً ذات أبعاد جيو ــ سياسية.
لا يكتسب الرهان على الخطابين السياديّين المتعارضين أي قيمة جدّية، إلا من ناحية كون كل واحد منهما يسعى لإدراج لبنان في واحد من المعسكرين المتنافسين على السيطرة على المنطقة: يجرّ مناصرو المفهوم الغربي للسيادة بلدهم للانخراط في المعسكر الغربي، بينما يمكن اعتبار الخطاب الممانع، القومي العروبي منه والإسلامي، بمثابة جزء من استراتيجيا المعسكر المقابل.
إنّ الخطورة الحقيقية تكمن في التعارض الإيديولوجي والثقافي والحضاري الذي يغلّفه الانقسام السياسي بين اللبنانيين. إنّ جوهر الخلاف بين المعسكرين اللبنانيّين يمسّ تحديد «هويّة» لبنان، بين «السياديين اللبنانيين» من جهة، و«القوميين العروبيين» أو الإسلاميين من جهة أخرى.
ينطلق الخطاب العروبي والإسلامي من فرضيّة مفادها أنّ «السيادة الوطنية» التي يتغنّى بها «السياديون»، إنّما منحنا إيّاها الغرب للتغطية على هيمنته على المنطقة، ويذهب هؤلاء بعيداً في هجومهم على السيادة، فيذكّرون بأنّ استقلالنا شابته «الخطيئة الأصلية»، لأنّ القوى الغربية أرادت من خلال دساتير الدول المستقلّة في الشرق الأوسط الإجهاز على «الرجل المريض»، وتفريع الإمبراطورية العثمانية بشكل تبقى معه هذه الفروع تحت رقابتها المباشرة... وكل ذلك يتحقّق عبر إبقاء هذه الكيانات حالات سياسية فسيفسائية، مجموعة من الكيانات الصغيرة المتحاربة دوماً، الفاقدة لعناصر التلاحم في ما بينها.
بحسب هذا الخطاب، تبقى هذه الدول المستقلة «بالشكل» على الصعيدين الوطني والقطري، فاقدة لإمكانات السيادة الحقيقية، إذا ما بقيت خارج الأطر «القومية» أو «الإسلامية». انطلاقاً من هذه الحجج والأدلّة، يبرّر أصحاب الخطاب المتعارض مع السياديين، يبرّرون تدخّل قوى إقليمية في الشؤون اللبنانية، باعتبار أنّ هذه القوى (مصر الناصرية، المقاومة الفلسطينية، سوريا، ايران...) تنتمي إلى إطار جغرافي «داخلي»، وبالتالي تدخّلها مشروع في معجمهم السياسي، بعكس ما يصنّفون التدخّل الدولي «الخارجي»، لأنه يأتي من «أرض عدوّة».
نستخلص أن مسألة السيادة هي موضوع إشكالي سجالي يترجم الانقسام العمودي بين تصوّرين للسلطة، غير قابلين للتصالح. إنّ الحداثة جعلت من الشعب «موضوع» السياسة واعترفت له بالحق في فرض إرادته وقوانينه، بينما تََُبقي الثقافة السياسية الإسلامية «الله» مصدراً أوحد للسيادة والسياسة، حيث الإرادة الإلهية تفرض قوانين عالمية الطابع، لا يحدّها زمان ولا مكان، لكونها تعبيراً عن إرادة إلهية مطلقة بطبيعتها، حتّى حين تعالج وتنظّم تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية واليومية، فهي قوانين خارجة عن إطار أي نقد من أي نوع كان.بين استحالة تطبيقها من جهة، ورفضها رفضاً مطلقاً من خلفيات جيو ــ سياسية، بالإضافة الى مغالطاتها الكبيرة من وجهة النظر الثيولوجية ــ السياسية من جهة أخرى، من غير المتوقَّع أن نشهد مستقبلاً زاهراً لـ«السيادة» في بلادنا.
* باحث في الفلسفة السياسية
(ترجمة أرنست خوري)