نصير أحمد *
إن تناول موضوع شائك وشيّق كموضوع شبكة الإنترنت والرقابة يأتي دائماً في سياق بحث يتناول مسائل الحماية والأمن عبر الشبكة، ومن ضمنها «حماية الحياة الخاصة عبر الشبكة»، التي يتفرع عنها بحث موضوع الرقابة إذا ما نظرنا إلى الشبكة من زاوية حرية الرأي والتعبير.
وإذا كان لا بد من تناول موضوع الرقابة بالبحث، فإنه يأتي دائماً في سياق بحث أوسع وأشمل يتناول موضوع الرقابة على أدوات النشر ووسائل الاتصال، كمنابر وساحات يمكن أن تمارس من خلالها حرية القول والكلمة وحق الإنسان في التعبير عن رأيه، فالإنترنت في النهاية وإن اختلفت التعريفات ليس سوى أداة من أدوات النشر ووسيلة من وسائل الاتصال، ولو اختلف عن الأدوات أو الوسائل التقليدية وتميز عنها بكونه ساحة دولية مفتوحة ومترامية الأطراف ومشرّعة على الاستخدام من أي كان.
وإن تناول موضوع الإنترنت وإشكالية الرقابة، يدفعنا أولاً إلى تناول إشكالية حرية الرأي والتعبير بحد ذاتها، فالرقابة في النهاية، بشقيها المسبقة أو اللاحقة تمارس من جانب من يملك سلطة الرقابة منعاً للتعدي على الحدود المرسومة أمام ممارسة هذا النوع من الحرية أو الحق، على شكل قيود وضوابط منصوص عليها في نصوص دساتير كل دولة وقوانينها الوضعية، مهما كانت الوسيلة المعتمدة لممارسة هذه الحرية أو ذلك الحق.
وإذا كان كذلك، ونظراً إلى الاعتبارات التي سقناها آنفاً، فإن ما يعتبر تعدياً على الحدود المرسومة لممارسة حرية الرأي والتعبير في الواقع وفقاً لما تراه كل دولة، يعتبر كذلك إذا مورس عبر الشبكة مع الأخذ بعين الاعتبار الإشكالية الدولية الناشئة عن شبكة الإنترنت ونسبية الحريات العامة وحقوق الإنسان، وما يعتبر خرقاً للقيود المفروضة أمام ممارسة هذا الحق، وبالتالي تعاقب عليه القوانين المرعية، يعتبر كذلك إذا مورس عبر الشبكة من دون حاجة إلى أي مبرر قانوني آخر.
في هذا الإطار ورد في جريدة الأخبار، الصادرة نهار الثلاثاء 9 كانون الثاني 2007، العدد 124، الصفحة التاسعة، مقال بعنوان «الإنترنت عربياً ارفعوا يد الرقابة»، وفي هذا الإطار أيضاً وضمن حق الرد المسموح لا بد من إبداء بعض الملاحظات والتعليقات على هذا المقال، علماً أن هذه الملاحظات أو التعليقات تتخطى المقال بحد ذاته إلى التقرير الذي تناوله هذا المقال بالتعليق، فالكاتب لم يقم بإضافة شيء من عنده، فكان تقريره نقلياً بمجمله عن موقع المبادرة العربية عبر شبكة الإنترنت، وحتى إنه في بعض الأحيان أخطأ في النقل فالتقرير صادر عن «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان» وليس عن المبادرة العربية كما يدّعي الكاتب، إنما قامت هذه الأخيرة بنشر محتواه في موقعها عبر الشبكة، وحتى إنه أخطأ في نقل عنوان التقرير الذي هو بعنوان «الإنترنت والحكومات العربية، خصم عنيد» خالطاً بذلك بين عنوان التقرير عينه وبين عنوان المؤتمر الصحافي للإعلان عن صدور التقرير، مع العلم أيضاً أنه أورده بطريقة مجتزأة قائلاً ان عنوان التقرير هو «الإنترنت جبهة جديدة لصراع الحكومات العربية» والصحيح أن عنوان المؤتمر الصحافي هو «الإنترنت جبهة جديدة لصراع الحكومات العربية ضد حرية الرأي والتعبير».
كم كان مصيباً ذلك العنوان، فالصراع هو في الأساس بين السلطة بشكل عام ومن بينها سلطة الحكومات العربية، وحرية الرأي والتعبير، والمواجهة بين السلطة وشبكة الإنترنت إنما هي مواجهة بين ممارسة حرية الرأي والتعبير بغض النظر عن الوسيلة المعتمدة في ذلك، وبين القيود المفروضة أمام ممارسة هذه الحرية، والصراع بين الحكومات العربية والإنترنت إنما منطلقه كون هذا الأخير يشكل وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي. وقد أحسن التقرير من هذه الناحية عندما وجّه في البدء نقده إلى الحكومات العربية لقيامها بتضييق الهامش المعطى لممارسة حرية الرأي، ولكنه أيضاً هنا وقع في المحظور عندما شمل كل الحكومات العربية بهذا النقد، وفي مكان آخر من التقرير قال: «إن درجة الرقابة تختلف بين دولة عربية وأخرى»، وسمى لبنان نموذجاً حيث تصل درجة الحرية إلى أعلى معدلاتها.
وإنه لمن الإجحاف بحق الإنترنت، وبحق المواطن العربي بشكل عام، أن نقول إن عدد مستخدمي شبكة الإنترنت إنما تضاعف بفضل ممارسة حرية الرأي والتعبير، وننسى الخدمات الكثيرة والجلية والمهمة التي يقدمها الإنترنت في مجالات التجارة والأعمال والتعليم، و...، والتي تؤدي في النهاية إلى زيادة الإقبال على استخدام هذه الشبكة، حتى إن استخدامها بات في بعض الأحيان أمراً لا مفر منه، وإلا كيف نفسر هذا الازدياد المطّرد في عدد مستخدمي الإنترنت في الدول الديموقراطية المتقدمة التي يتسع فيها هامش حرية الرأي المعطى للأفراد.
نعم «الإنترنت خصم عنيد» كما عنون التقرير، وحجب المواقع كممارسة للرقابة نعم بلا فائدة، بل إنه في بعض الأحيان يعطي نتيجة عكسية، على قاعدة أن «كل ممنوع مرغوب»، وهذا ما يفسر احتلال مواقع المعارضات الإسلامية صدارة المواقع في العالم العربي بعدما حاولت حكومات معظم الدول العربية حجبها، وهنا على الحكومات العربية أن تدرك أنها تقاتل في معركة خاسرة، أمام «عدو» نعم في بعض الأحيان «عدو» وهمي، وشبكة افتراضية ليس لها وجود مادي ملموس ولا يمكن أحداً أن يدّعي ملكيتها وبالتالي إدارتها والرقابة عليها.
والمواجهة بين الإنترنت والحكومات ليست محصورة بالحكومات العربية، ومحاولات الرقابة والتقييد عبر حجب المواقع والمعلومات ليست حكراً على الدول العربية وحدها، وأنا هنا لا أتحدث عن الصين أو روسيا أو كوريا، إنما عن دول عريقة في الديموقراطية وتعتبر نموذجاً يحتذى بالنسبة إلى كثير من العاملين في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، مثل الولايات المتحدة، التي أصدر المشرّع فيها قانون آداب الاتصالات (Communication Decency Act CDA)، في 8 شباط 1996، بضغط من التيارات الدينية لمكافحة تفشّي الإباحية عبر وسائل الاتصال ومنها شبكة الإنترنت، على الرغم من الانتقادات التي وجّهتها إليه بعض المحاكم والقضاة باعتبار القانون مخالفاً لحرية الرأي والتعبير المصونة بمقتضى دستور الولايات المتحدة الأميركية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي المحصلة، يمكن القول إن معظم الدول تمارس نوعاً من الرقابة على ممارسة حرية الرأي والتعبير عبر أدوات النشر ووسائل الاتصال لسببين اثنين:
أولاً: محافظة على النسق الاجتماعي للمجتمع، وحفاظاً على منظومة القيم الأخلاقية التي تحكمه، وخصوصاً في وقت أصبح فيه العالم قرية كونية صغيرة وانهارت الحدود الجغرافية والسياسية أمام وسائل الاتصال، ومن بينها شبكة الإنترنت.
ثانياً: حفاظاً على السلطة في المجتمع وخوفاً من تصدير ثقافة الحرية، التي فد تقوض أركان السلطة الحاكمة. هذا ولئن كانت معظم الدول العربية قد فرضت الرقابة على وسائل الاتصال للاعتبار الثاني، فإنه من الإجحاف في حق هذه الدول أن نسقط الاعتبار الأول من الحسبان.
وفي النتيجة، فإن نوعاً من الرقابة هو أمر مطلوب وهو «شر لا بد منه»، وإن كان المطلوب «عدم تقييد حرية الرأي والتعبير عبر شبكة الإنترنت»، وإرهاقها عبر الرقابة المسبقة التي هي أمر متعذر من الناحية التقنية على الأقل، فليس المطلوب رفع يد الرقابة بالكامل.
والحل يكون من خلال:
أولاً: تفعيل الرقابة الذاتية من جانب مستخدم الشبكة نفسه، الذي من المفترض أن يحترم القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، وهذا ما قامت به فرنسا بعدما ألغت الرقابة المسبقة على خدمات الشبكة وألزمت الشركات الموردة لخدمة الاتصال بالإنترنت بضرورة تنبيه المشترك معها إلى حقه في استخدام برامج لتنقية المواقع وفقاً للاعتبارات التي يراها هو، وحجب المواقع والمعلومات التي لا يريدها هو.
اعتماد الرقابة اللاحقة على ما ينشر عبر الشبكة، تماماً كما هي الحال في الرقابة اللاحقة على أدوات النشر ووسائله التقليدية، مع لحظ مسألة الإشكالية الدولية وتنازع القوانين انطلاقاً من نسبية الحريات العامة وحقوق الإنسان.
هذه بعض الملاحظات التي يتسع لها المقال، مع العلم بأن هناك ملاحظات أخرى لا مجال لذكرها هنا.
* متخصص في شؤون القانون الاداري