سعد الله مزرعاني *
من مفارقات، بل من عجائب النظام الطائفي اللبناني، الثنائية التي تميز المشهد السياسي الراهن، أو الطور الراهن من الصراع السياسي في بلدنا: فالمعارضة تتخذ من «الديموقراطية التوافقية» ذريعة أساسية لتأكيد حقها في المشاركة عبر صيغة «الثلث المشارك أو الضامن». وهي لهذا الغرض تذكّر، ومعها رئيس الجمهورية، بمقدمة الدستور التي تؤكد أنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. وكذلك تذكّر بالمادة 95 التي تنص في «المرحلة الانتقالية» على ان تمثل الطوائف بصورة عادلة في تأليف الوزارة. وتعزز من منطق المعارضة ضخامة حجمها التمثيلي للناخبين الشيعة، بحيث سيبدو أي استبدال لوزراء حركة «أمل» و«حزب الله» استفزازياً، وغير مقنع. بكلام آخر، تذكّر المعارضة القاصي (الذي لا يعرف، ربما) والداني (الذي يعرف بالتأكيد)، بأن نظامنا السياسي لا يعتمد الأكثرية التقليدية، إنما هو، تقريباً، كونفدرالية مذاهب... وهو بذلك يكتسب شرعيته من مشاركة هذه المذاهب، ويخسرها، بالمقابل، إذا لم يشارك أحد المذاهب الكبيرة من بينها.
أما فريق الأكثرية فيغرف من المعين نفسه، وإن بطريقة مختلفة من حيث الشكل، مماثلة من حيث المضمون. إنه يبني تحريضه السياسي على كون المشاركة، بالصيغة المقدمة من المعارضة، إنما تستهدف النيل من دور الطائفة السنية في صيغة النظام السياسي اللبناني. ويصبح هذا التحريض أفعل وأكثر استثارة، بمقدار ما يبدو في تحرك المعارضة ان «الشيعة» الذين هم القوة الأساسية الحاملة لهذا المطلب والضاغطة من أجل تحقيقه، وهم بالتالي المستفيدون الأول عند وضعه موضع التنفيذ. هذا هو معنى «الانقلاب» الذي يحذر منه ويرفضه ويتعهد بإجهاضه يومياً أقطاب الأكثرية.
استخدام العامل الطائفي والمذهبي ليس أمراً طارئاً أو مستغرباً في النزاعات وفي التعبئة المقابلة بين الأطراف التقليديين اللبنانيين، بل إن هذا العامل وتلك التعبئة هما الأداتان المفضّلتان اللتان طالما تم اللجوء إليهما: من أجل تعزيز موقع، أو تغطية ارتكاب (مهما كان صغيراً أو كبيراً)، أو تبرير علاقة مع الخارج، حتى لو كان... عدواً!
لا بل إن موضوع إلغاء الطائفية السياسية نفسه قد جرى استخدامه بشكل طائفي. ونتذكر كيف كان يستحضر موضوع تأليف «الهيئة الوطنية» لإلغاء الطائفية السياسية المنصوص عليها في المادة 95 من الدستور، كلما كان ينبغي دفع أحد أطراف المعارضة في مرحلة الإدارة السورية، للسكوت أو للموافقة أو للمساومة... وفي الصراع الراهن، ينبغي القول، من دون مجانبة الإنصاف، إن الفريق الأكثري «هو الذي بدأ». كان ذلك حين لجأ هذا الفريق الى حصار «حزب الله» وبعض حلفائه في أضيق زاوية. لقد اتهمه بأنه يخرج عن «الإجماع» الطائفي اللبناني المتشكل في صيغة «لقاء البريستول»، والموجه ضد النفوذ والوجود السوريين في لبنان.
ولفترة كان هذا الفريق يمضي على إيقاع منتصر مزدوج: تكوين أكثرية سياسية ــ طائفية في البلاد، من جهة، والحصول على دعم أميركي وفرنسي، وخصوصاً (بعدما تبدلت وتغيرت السياسات الاميركية في المنطقة ارتباطاً بالغزو الاميركي للعراق)، من جهة أخرى. ولقد فرضت نفسها هذه المعادلة على «حزب الله» وبعض حلفائه آنذاك (وكان التحالف الرباعي ثمرة ذلك كما أشرنا آنفاً)، الى ان كانت مفاجأة الانتخابات النيابية حيث استحوذ العماد ميشال عون على تأييد كبير وراجح بين الناخبين المسيحيين، مع كتلة نيابية ضخمة نسبياً، وممثلة لمراكز «الثقل» المارونية، في المناطق اللبنانية!
لقد خيّب العماد عون الكثير من توقعات فريق الأكثرية الراهنة ومن يقف وراء هذا الفريق، وفي امتــــــــداد ذلك عادت لتتكون لوحة جديدة، من أبرز مظاهرها إعلان ورقة «التفاهم» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في أوائل العام الماضي.قلنا إن فريق السلطة الحالية هو الذي بدأ تفعيل حضوره في المعادلة الطائفية، لكن الجميع انخرط في اللعبة المذهبية: في سياق من الفعل أو من رد الفعل. إلا ان التمييز مع ذلك ضروري في سياسات وتوجهات وتكتيكات أطراف الصراع المتبلور الآن، ما بين فريقي «المعارضة الوطنية» وفريق «14 آذار» (كما يرغب في أن يسمّي نفسه). والواقع أننا نعاني ما يشبه لعبة القط والفأر، على كر وفر وتعادل نسبي: ففريق المعارضة يصر على ان الصراع ليس مذهبياً، بل هو «سياسي بامتياز»، إلا انه يعود ليطالب بتفعيل حصته في المعادلة الطائفية التقليدية وعلى القاعدة الدستورية التي أوردناها في البداية؟
أما فريق الأكثرية فيحاول تغطية خيار سياسي داخلي، وعلاقات وارتباطات سياسية خارجية، بدعوى ان المستهدف إنما هو موقع الطائفة السنية في معادلة الحكم والحكومة والسلطة. ويغطي ذلك أيضاً بمزاعم وشعارات الدفاع عن سيادة البلد ضد استهدافات المحور الايراني ــ السوري.
والواقع ان الرابح في هذه المعادلة، لجهة استخدام العامل الطائفي والمذهبي، على أفضل وجه، حتى الآن، هو فريق الأكثرية، ولا يتصل ذلك فقط بسبب ما يملكه من إمكانيات إعلامية ضخمة موظفة، من دون خطوط حمراء، في خدمة الشحن المذهبي، وإنما أيضاً بسبب تناغم موجته مع الموجة الاميركية الجديدة التي تبلورت، خصوصاً، بعد التعثر في العراق. ويحيلنا هذا الأمر، ولو جزئياً، إلى تلمّس بعض مستجدات السياسة الأميركية في المنطقة، وخصوصاً في حقل التحالفات والمواقف حيال العلاقة مع الأقليات أو الأكثريات، ذات الطابع المذهبي والطائفي. ويتأكد، مرة أخرى، هنا، ان النجاح الذي حققه الأميركيون في لبنان (ويحاولون المحافظة عليه بدعم غير مسبوق لحكومة السنيورة)، هو نجاح بالغ الأهمية بالنسبة إلى مسار السياسة الاميركية الراهنة، وخصوصاً بعد خيبة واشنطن الناجمة من فشل العدوان الاسرائيلي في تموز وآب الماضيين على لبنان.
لا شك، إذاً، في ان لرجحان ميزان الصراع اللبناني ــ اللبناني وفق ما ذكرنا، مفاعيل إقليمية وشرق أوسطية، ذات أهمية أكيدة. ويكفي ان نقول، هنا، إن إغراق الطابع التحرري للمقاومة الإسلامية في لبنان، في حمأة النزاعات الطائفية والمذهبية، إنما هو هدف تسعى إليه واشنطن، وتغذّيه اسرائيل، وتجتهد في العمل من أجل تحقيقه قوى الأكثرية اللبنانية. معروف أن بعض قوى المعارضة ذات برامج علمانية أو مدنية.
* نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني