وليد شرارة *
لقد فشل المشروع الأميركي في العراق، وعلى رغم ذلك، ما زال الأميركيون يتطلعون الى شرق أوسط جديد. العداء القديم بين السنّة والشيعة تحول الى صراع مستمر، وباتت الولايات المتحدة في وضعية تسمح لها باعتماد سياسة «فرّق تسد». فالأميركيون يتمتعون بدعم السعودية لحماية رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، وهو سنّي في مواجهة حزب الله الشيعي. وفي العراق، تعتمد الولايات المتحدة على الشيعة لمواجهة السنّة ويكفي أن تحشد بضعة آلاف من الجنود في بغداد لدعم الحكومة المسيطر عليها من الشيعة. أمّا على صعيد المنطقة، فإن السنّة باتوا يخشون النفوذ المتعاظم للمحور الشيعي الذي يضم إيران والعراق وحزب الله لدرجة أنهم أصبحوا يدعمون جدّياً، للمرة الأولى، السياسة الأميركية.
ففي عام ألفين، كانت لشبكة القاعدة حرّية حركة حقيقية في السعودية. لم يعد الأمر على هذه الحال اليوم. عبر اعتماد سياسة فرق تسد، ستسير الأمور في الاتجاه الذي تتمناه الولايات المتحدة. هذا الكلام ليس لأحد من أنصار «نظرية المؤامرة» من العرب، التي كثر نقّادها في الفترة الماضية، ولا لأحد معارضي السياسة الأميركية. صاحب هذا الكلام هو إدوار لوتواك (Edward Luttwak) المفكّر الاستراتيجي والمؤرّخ العسكري والمستشار لدى مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية والجيش في الولايات المتّحدة. لم يقتنع لوتواك يوماً بإمكانية نجاح المشروع الأميركي المعلن والهادف حسب نظرية المحافظين الجدد والمتحمسين له من الديموقراطيين العرب الى «دمقرطة» المنطقة. لكنّه، ومثله الكثيرون من الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين والإسرائيليين والغربيين، دافع عنه لأنه سيؤدّي الى تأجيج تناقضات مجتمعات المنطقة ويطلق ديناميات تقسيمية تسمح للولايات المتحدة اعتماد سياسة فرّق تسد الاستعمارية القديمة، وهو يعترف في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة ليبراسيون في عددها الصادر في الحادي عشر من الشهر الحالي، بأن الولايات المتحدة ستضرب المنشآت النووية الإيرانية قبل نهاية هذه السنة وأنّ هذا العدوان لن يثير موجة تضامن مع إيران «بسبب الانقسام الحاصل بين السنّة والشيعة».
يتفق فرنسيس فوكوياما، المفكر الأميركي المعروف، مع هذا الرأي. فهو يؤكّد في مقابلة مع صحيفة لوموند «أنّ المحافظين الجدد يدعون الى قصف المنشآت النووية الإيرانية. هذا الجنون بعينه... لقد سمعت من أشخاص مطّلعين أنّ جورج بوش يرى أن عليه أن يكون حاسماً على الرغم من التغيير الذي طرأ على مزاج الرأي العام». زبغينو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق، توصل إلى القناعة نفسها وأشار، في مقال نشره في صحيفة لوس أنجلس تايمز، الى «خيار ثان، يبدو أنّه ساور الرئيس بوش واختمر في ذهنه، ويتمثل في توسيع العملية العسكرية، بحيث تشمل إمّا سوريا وإما إيران. وهذا خيار لا يعدم وجود الكثيرين داخل الإدارة وخارجها من المحافظين الجدد ممن يدفعون في اتجاهه مثل جوزف ليبرمان، ربما يفضّلونه كأحد الخيارات الممكنة». خبراء ومفكرون أميركيون، من خلفيات فكرية ومواقع سياسية مختلفة يؤكدون ان الحرب واقعة لا محالة على الرغم من تباين مواقفهم منها وتوقعاتهم لنتائجها وتداعياتها. والتطورات المتسارعة على المستوى السياسي تعزز صدقية توقعاتهم. فالحركة السياسية والديبلوماسية الأميركية في اتجاه المنطقة في الأيام الأخيرة، كجولة وزيرة الخارجية الأميركية رايس في عدد من عواصمها، ترمي الى حشد دولها خلف الولايات المتحدة في مواجهتها مع ايران، ويتضح اليوم ان هذه الجولة قد حققت أهدافها. فالمواقف الصادرة في القاهرة والرياض والمؤيدة للخطة الأميركية الجديدة في العراق هي في الحقيقة تأييد «لاحتواء النفوذ الايراني المتعاظم» على مستوى الإقليم بكل الوسائل المتاحة. لقد نجحت الولايات المتحدة في استخدام الصراع الطائفي الدائر في العراق وتأثير إيران المتزايد داخل هذا البلد لترويع أنظمة المنطقة وحملها على الاندراج غير المشروط في اســــــــتراتيجيتها الإقليمية.
وقد أضحى جلياً أن الرئيس الأميركي يحاول وضع نفسه في موضع المدافع عن دول «الاعتدال» العربي في مواجهة «التهديد» الإيراني. ففي خطابه الأخير المخصص لإعلان استراتيجيته الجديدة في العراق، قال بوش إن هزيمة واشنطن في هذا البلد ستعني ان الرياض والقاهرة وعمان أصبحت جميعها في دائرة الخطر. وهو ركز أيضاً في خطابه على ضرورة التصدي «للشبكات الإيرانية» في العراق التي تدعم حسب زعمه حركات المقاومة.
خطوات عملية تلت هذه المواقف والتحركات السياسية والديبلوماسية: اعتقال ديبلوماسيين إيرانيين في أربيل، إرسال بارجة عسكرية جديدة إلى الخليج، ولا يمر يوم إلا وتتسرّب معلومات عن خطط وتدريبات عسكرية لضرب إيران يتضمن بعضها استخداماً للأسلحة النووية التكتيكية أو للقنبلة النيوترونية. خطر كارثة جديدة يلوح في الأفـــــــــق بالنسبة إلى جميع شعوب المنطقة ومصالحها الوطنية الحيوية. لكن قطاعات لا يستهان بها من هذه الشعوب، وبسبب الاستقطاب المذهبي الحاد السائد على خلفية الحرب الأهلية العراقية، لا ترى الصورة على حقيقتها. فإيران ليست مستهدفة لأنها قوة «شيعية» تعمل على بناء «هلال شيعي» في الشرق الأوسط. هي مستهدفة لنفس الأسباب التي دفعت الغرب إلى استهداف تجربة محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر ومصر الناصرية في الخمسينيات والعراق في التسعينيات. ممنوع على أية دولة من دول المنطقة المحورية ذات التوجهات الاستقلالية، التحول إلى قطب إقليمي يخلّ بالتوازنات التي فرضتها القــــــــوى الاستعمارية. وقد نجحت هذه القوى في كل مرة باستغلال الانقسامات ما بين دول المنطقة أو داخل الدول لتنفيذ مآربها.
لذلك، ولإظهار صورة المواجهة الدائرة على حقيقتها، ينبغي على ايران وعلى الحركات الإسلامية الشيعية المقاومة للهيمنة الاميركية والصهيونية العمل على رعاية مؤتمر للوحدة والمصالحة في العراق على قاعدة الحفاظ على وحدته وعروبته ومقاومة الاحتلال. وعليها أيضاً التبرّؤ من الميليشيات الطائفية العميلة ومن القوى السياسية التي تقف وراءها واعتبارها خارجة عن الدين والمذهب. موقف واضح وقوي مما يجري في العراق وسياسة تعمل على توحيد الصفوف شرطان لا بد منهما لرأب الصدع الذي تسبب به الاستقطاب المذهبي بين أبناء الأمة ولتصبح معركة الدفاع عن ايران معركة الأمة كلها.
* كاتب لبناني