د. أمين محمد حطيط *
انتظر العالم استراتيجية بوش الجديدة في الشرق الأوسط المتخَذ أميركياً مسرحاً استراتيجياً متكاملاً اعتبرته أميركا الميدان ــ الممر الإجباري لتحقيق الإمبراطورية الأميركية الكونية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ومن المعروف ان المشروع الامبراطوري الاميركي حقق في انطلاقته الأولى نجاحاً في الخليج 1990، تحت شعار تحرير الكويت، ثم بدأ يتعثر في الخطوة الثانية والثالثة (أفغانستان والعراق) وكانت الكارثة عليه في حرب تموز 2006 في لبنان... وبات سقوطه أمراً لا يستبعد، لذلك تجد أميركا نفسها اليوم ملزمة بتنفيذ هجوم معاكس يمنع الانهيار، ويعوض الخسارة ويعيد الأمل حياً في نجاح المشروع.. وانطلق التنفيذ في هذا الهجوم المعاكس من ميدان سهل يعيد الثقة بالنفس، فكان اختيار الصومال لتحقيق هذا النصر السريع، نصراً يتخذ «ذخيرة معنوية» لا بد منها في الميدان الأصعب.. وبعد هذا «الإنجاز الكبير» أعلن بوش «استراتيجيته» الموعودة.. فهل سيكتب له النجاح؟ وكيف؟
من المعروف ان الاستراتيجية هي علم وفن استعمال الوسائل المتوافرة، لتحقيق أهداف نهائية محددة، يكون بلوغها عبر خطة مناسبة تُعتمد... فما الذي تغيّر الآن من عناصر في الاستراتيجية الجديدة، حتى نقول ما تحتمله من نتائج؟
فمن حيث الهدف أو الأهداف النهائية، يعلم الجميع بأن آبار النفط هي التي قادت أميركا الى منطقتنا، أما شعارات الديموقراطية والحرية، والعالم المتحضر لم تكن أكثر من كلام لا يخدع به مطلقه إلا نفسه والبسطاء، لأن أميركا لا يمكن ان تقبل بديموقراطية تأتي الى السلطة عبرها فئات لا تخضع لها، ولا تقبل بحرية لمن يتجرأ على كشف طغيانها، أما الحضارة فحدّث ولا حرج من غوانتانامو الى سجن أبو غريب.. النفط كان الهدف، وهو باق الآن هدفاً استراتيجياً نهائياً..
أما الوسائل فالكل يعلم بأن أميركا اعتمدت القوة العسكرية الصادمة أساساً للتنفيذ، التي بهيبتها ترعب العدو فيمتنع عن المواجهة، ثم تتقدم بنارها التي لا يقيدها مبدأ أو قانون، أو يحدها خوف من ملامة أو انتقاد، تستعملها لتستأصل من يمانع، وتثبّت الواقع ليكون طوع قرارها.. وتساعدها أدوات محلية، توفر لها فرصاً اقتصادية بالقوة قدر الإمكان، وتوفر لها الاستقرار الأقصى بعد ذلك باستعمال الحد الأدنى من الجيوش... وبالفعل، كانت النار الأميركية تنجح في البدء بالوصول الى الهدف الأولي، لكنها عجزت عن تحقيق الاستقرار.. لأن ميدان العمل لم يكن كما كانت تعتقد أميركا، من حيث ظروفه الموضوعية أو الذاتية.. فكان المأزق الذي تبحث أميركا عن مخرج منه.. وجاءت بخطتها الجديدة لتشكل لها هذا المخرج.... خطة يختصر ظاهرها بالقول إنها زيادة القوى العسكرية في العراق 21500 عسكري (الوسائل)، مع عمل حثيث لتغيير الظروف الموضوعية التي تسببت بالفشل أو التعثّر السابق... والهدف النهائي طبعاً لم يتغير: «تحقيق المهمة» التي هي امتلاك النفط....
عندما احتلت أميركا العراق منذ 4 سنوات كانت الظروف الموضوعية والشخصية، أفضل بكثير منها الآن بالنسبة إليها، ومع ذلك لم تستطع ان تفرض الواقع المستقر لها، أما اليوم فإن هذه الظروف تعقّدت بوجهها وعقّدت المهمة بالنسبة إليها، وبلغ التعقيد حداً يجيز القول إن القوة (الوسيلة الأساس التي استعملت) ليست الدواء الناجع لتحقيق المهمة، ولا يغيّر في الموقف إضافة 21500 عسكري الى 132000 موجودين حالياً في العراق، فقد كان العدد في السابق يفوق 160000 ولم يحقق المهمة... وإن تعزيز القوى بهذا الحجم لن يحدث تغييراً جوهرياً في الوضع العسكري الميداني.. هنا يواجه الباحث أو المراقب السؤال التالي: هل الإدارة الأميركية من السطحية والخفة الى درجة أنها لا تستطيع أو تقدر أن تستنتج عقم الاستمرار في طريق ثبُت فشلها؟ أو على الأقل محدودية نجاحها؟
من البديهي الإجابة بالنفي، وهنا يقفز السؤال التالي: إذاً، ما الذي تقصده أميركا من «استراتيجيتها الجديدة»، وما هي الخطة التنفيذية لها؟
في تحليل موضوعي للمسألة نقول: إن أميركا المتمسكة بهدفها الأساس (النفط) والمتيقّنة بعد أربع سنوات من القتال أن امتلاك الاستقرار في العراق أو فرضه بالقوة بات أمراً مستحيلاً، هي الآن بصدد تحقيق الهدف من طريق آخر لا يكون فيه هزيمة ظاهرة لها، فهي لا تستطيع قطعاً ان تستمر في النزف البشري الحالي، ولا تستطيع ان تتراجع من الميدان في ظل صورة «هزيمة» واضحة، لذلك تريد ان تخلق ظرفاً يظهر انتصاراً يمكّنها من إعادة الانتشار منتصرة، وقدرة على تأمين الأهداف.. وهنا يكمن الجديد المتوقع من الاستراتيجية المعلنة حديثاً، حيث يمكن افتراض اعتمادها على المراحل التالية:
ــ إقحام قوى عسكرية أميركية طازجة، في ميدان معركة محصورة جغرافياً ومحددة زمنياً، تعمل ضمن أسلوب القتال التدميري الصاعق، لتتمكن من السيطرة التامة على الحيز الجغرافي المختار، عبر تطهيره من العناصر «الإرهابية المناوئة».. وهذا ما يفسر استقدام 21500 عسكري جديد (يكتمل عددهم في 15 شباط)، واختيار بغداد والأنبار ميداناً للعملية..
ــ إقحام قوات عسكرية محلية في المعركة، يتم اختيارها بشكل متعاكس طائفياً مع منطقة العمل (السنّة في مناطق الشيعة، والشيعة في مناطق السنّة) لتعزيز التوتير الطائفي بين الفئتين، ليكون لها معيناً في المستقبل في عملية الإلهاء وإشغال المقاومين بأنفسهم فترتاح قواتها من المواجهة.
ــ استثمار الإعلام لنشر صور «النصر المرتقب» وخلق الظروف الميدانية الموضوعية التي تمكّن القوات الاميركية من الانسحاب من المناطق الآهلة، للتمترس في قواعد في الصحراء تضمن السيطرة على آبار النفط، وليبقى القتال بين السكان الذي فيه انصراف للمقاتلين عنها...
ــ نقل مسؤولية الأمن في المدن الى القوات العراقية، بعد التراجع الى خارجها، وتصبح هذه القوات المحلية هي المسؤولة حصراً عن الفشل والتقصير، وترتاح أميركا من هذه المسؤولية...
انها خطة عمل جديدة تريد أميركا عبرها التحلّل من الفشل الميداني والتمسك بالأهداف الاستراتيجية التي جاءت من أجلها، خطة تحتاج الى محيط خارجي ومحلي مناسب ليوفر نجاحها، لذلك نرى ان أميركا تعمل اليوم لصياغة هذا المحيط كما يلي:
ــ ضمان موافقة الدول العربية على الخطة واستعدائها على المقاومة العراقية (تسميها ميليشيات)، وابتزازها حتى تتقبل لاحقاً العمل الاميركي «الحضاري» الذي سيرتكب في حق المدنيين (من مجازر وهدم) على غرار عملية الفالوجة. ومن هنا يمكن فهم أو تفسير جولة رايس في المنطقة.
ــ إرهاب دول الجوار بتهديدها بالحرب لتضمن حيادها أثناء العملية (وهي حرب نستبعدها ولن تكون في المستقبل المنظور على الأقل)، وامتناعها عن دعم المقاومة، مع إشاعة جو مواز يكون بمثابة الوعد بمنافع تعطى لها بعد نجاح العملية. وهذا ما يفسر حشد الأساطيل في الخليج والبحر المتوسط، ونشر صواريخ الباتريوت في المنطقة.
ــ إشعال النار في مناطق أخرى في الشرق الأوسط لتبعث الدخان الذي يغطي ما سيحصل في العراق، وهنا يعود فيطلّ مجدداً خطر الفتن المذهبية في لبنان، والفتن الأهلية في فلسطين، وهكذا نفهم سلوك رئيس السلطة في فلسطين وسلوك الفريق الاميركي في لبنان ذي الطبيعة الاستفزازية المستدرجة للفتنة (المستمرة على رغم ضآلة الأمل في النجاح).
ان بوش يقدم للمنطقة استراتيجية للقتل ولم يقدم لأميركا استراتيجية للنصر لأنه يئس من النصر، فقدم خطة ويلات بالغة الخطورة اعتمدها لتكون مدخلاً لاستراتيجية التفاوض المباشر مع الأقوياء في المنطقة.. خطة خطرة إذاً، وأخطارها تتمثل في ما يخطط له من شلالات دم قد يهرق إن لم يكن وعي أهل المنطقة هو المتحكم بالتصرف والسلوك ورفض الفتنة.. فهل يعون أم سيُتّخذون وقوداً لنار الأجنبي في الأشهر الأربعة المقبلة؟
باحث استراتيجي وعميد ركن سابق